Saturday, March 31, 2012

بدون زعل : في دستور الأزهر ، والكنيسة

من حق من يشك أن يشك ، ومن حق من يقلق أن "يتوغوش" : المؤسستان الدينيتان الرئيستان في المجتمع ، ومعهما التجمعات الدينية المذهبية المنظمة ، تحولت فجأة من "بالروح بالدم نفديك يا زعيم" إلى كيانات ثورية ، ومن البعد حتى عن ممارسة الدور الديني إلى "الفتح على الرابع" في مسائل السياسة.. الذين شاركوا من على منابرهم هنا أو هناك على استحياء في الثورة ، وبعد تأكدهم من قرب الانتصار ، هم الآن من يريد أن يسهم في تشكيل الواقع الجديد ، من فقد مصداقيته - وأعني الأزهر - لارتباطه في السياسة أبى إلا أن يعاود البلبطة في مستنقعها..والذين كانوا لا يؤدون عملهم الأساسي قرروا تجربة أنفسهم في عمل آخر لا يتناسب مع وظيفتهم الأصلية في المجتمع..

الأزهر - مثلاً - قدم وثيقة ، أرادها أصحابها أن تكون "استرشادية" في عمل الدستور ، ثم عاد كالعادة لينفي أنه يمارس السياسة ، على طريقة "نحن لا نفتح الرسائل" ، ليفاجئنا بعدها بأنه يقف "على مسافة واحدة" من جميع المرشحين للرئاسة ، أمر يدل على أنه كانت هناك شكوك لدى المجتمع المصري أو بعضه تجاه الأزهر في تلك المسألة ، لنفاجأ بالأزهر ينسحب من تأسيسية الدستور لا لشيء إلا "لضعف تمثيله" في اللجنة.. أي أنه لو كان ممثلاً بعدد "أكبر" من الشيوخ والعلماء لبقي فيها.. وتذكروا.. نحن لا نمارس السياسة!

أما المستشار الصحفي للكنيسة الكاثوليكية فأصدر تصريحاً لا يقل غرابة عن التصريح الأزهري ، قائلاً فيه أن "الأقباط أعضاء اللجنة يمثلون أحزابهم، ولايمثلون كنائسهم"! أي أن المسألة ليست تهميش الأقباط الذين من حقهم أن يشاركوا كأفراد ومواطنين في وضع الدستور المصري من خلال الأحزاب السياسية مثلهم مثل غيرهم من المواطنين ، بل تهميش المؤسسات الدينية المسيحية من وجهة نظر المتحدث الصحفي ، الأمر الذي يعني ، لو استخدمنا نفس المنطق ، أن المسلمين المشاركين في اللجنة يمثلون أحزابهم ولا يمثلون الأزهر!

ماشي..

1-لماذا يريد الأزهر ، والكنيسة ، والطرق (باعتبارها نموذجاً للمجموعة الدينية المذهبية المنظمة)(1) المشاركة في عمل الدستور؟ ما هو الفرق بين دستور تشارك فيه تلك الجهات ودستور لا تشارك فيه؟ هل مشاركة الأزهر هي ضمانة للمادة الثانية؟ هل مشاركة الكنائس هي ضمانة لحقوق المسيحيين في الاحتكام إلى شرائعهم في مسائل الأحوال الشخصية والمواريث؟ أليس الدستور كما يقول كل من يريد التدخل فيه لمصلحته الضيقة هو "العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن" بغير ذلك اسم المواطن ولا بلد المواطن ولا الاتجاه السياسي للمواطن ولا الانتماء الديني والمذهبي للمواطن؟

2-ما الذي يمكن لتلك الجهات أن تقدمه داخل الدستور بعيداً عن المسائل الدينية ، بما أنها إن شاركت فيه ستشارك في المسألة كلها "لوكشة واحدة" ، ما يخص الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لا تتخصص فيها في الأغلب الأرجح؟ لطالما كان في الحالة الأزهرية ما يمكن اعتباره "ترويجاً" لنوع من التدين ينعزل بعض الشيء الكثير عن الحياة وشئونها ، التي من المفترض أن يخدمها الدستور ، وبالتالي ليس للأزهر كمنظمة أي خبرة تذكر في إدارة ما هو خارج المعاهد ومستشفيات الجامعة ، لأنه بلا صلة تربطه أو تربط مؤسساته بالمجتمع المحيط (حتى على العكس من بعض الجامعات في مصر) ، أما بالنسبة للكنيسة فلا يختلف الحال كثيراً ، إذ أنه حتى عملها في المجال الخدمي قد لا يكفي وحده لتواجد خبرة كافية للمشاركة في عملية فنية كصياغة دستور.. وحتى خبرات المؤسسة الدينية المسيحية لا تزال قاصرة على دائرة شئون أتباعها فقط دون أن تضع نفسها ، وأن يضع كل المشاركون الآخرين من جهات وأفراد أنفسهم بالطبع ، مكان أي مواطن في مصر أياً كان دينه (2)، بما أن الدستور يحدد أساسيات علاقة الفرد بالدولة أكثر من خدمات من الممكن أن تؤديها الدولة.. تذكروا أنه من أكبر ما وجه للجنة صياغة الدستور من انتقادات كان ما يتعلق منها بوجود "كفاءات".. هل المؤسستين الدينيتين الحاليتين ، اللتان لا تقومان بعملهما الديني الأصلي في المجتمع كما يجب ، كفاءة للمشاركة في وضع دستور؟ أم أن مدنية الدولة لدى "البعض" "أوبشن" يتم تفعيله في حالات معينة وتعطيله عند اللزوم؟

3-ألا يمكن أن تنطبق نفس الانتقادات التي توجه للأحزاب الدينية على تلك المؤسسات ولو بنسبة كبيرة؟ "انتو بتوع دين ولا بتوع سياسة" ، "تعرفوا إيه عن المواطنين اللي عايشين في العشوائيات والأماكن الفقيرة" ، "انتو ما عندكمش خبرة الحياة العامة وثقافة الدولة" ....الخ..

4-ألم يفكر الأزهر تحديداً في أن ما اكتسبه من مصداقية على مر تاريخه اكتسبها من عمله التربوي داخل المجتمع وما قام به للحفاظ على الثقافة المصرية العربية من تيارات التغريب والدونية ، وأنه عندما قدم خدمات للنظم السابقة فقد شعبيته لحساب السلفيين الذين يصرخ منهم الآن؟ ألم تضر تفاهمات الكنيسة مع الساسة قبل وبعد الثورة بمصداقيتها ولو لدى شريحة شابة من المسيحيين؟

5- ما الذي سيضمن أن تكون تلك هي المشاركة السياسية الأخيرة للجهات الدينية؟ أليس من المحتمل أن يكون حوار الدستور مقدمة لسلسلة من العبث السياسي فيما بعد؟ كوت وحصص وتقسيمات وخلافه؟

دخول الأزهر والكنيسة والطرق ، وكذا دخول أي فئة بصفتها الدينية للعمل السياسي هو نوع من أنواع الانتحار السياسي ، فمصداقية كل هؤلاء وغيرهم أصبحت بهذه الطريقة على المحك ، ومواقفهم ستصير كما الحالة في لبنان نهباً لأي ريح سياسية تهب هنا أو نوة هناك ، وبالتالي سيزيد الشرخ بينهم وبين الناس مع مرور الوقت ، ثم يتحول ذلك "الفَصَلان" إلى عداء ، سيدفعون ثمنه غالياً أكثر مما سيدفعه المجتمع بأكمله..

الدين كله لله ، والوطن للجميع ، والتخصص لأهل التخصص ، ألا هل قد بلغت ، اللهم فاشهد..
* (1) ... لأن السلفيين في مصر على الأقل ليست لديهم جماعات منظمة لها قيادة وتنظيم إداري ، ولأن الحالة السلفية في مصر "مزاج سلفي" كما وصفه الباحث الراحل "حسام تمام"..
(2)...وعندما يصعد أي تيار متشدد داخل أي مؤسسة دينية رسمية ، أو حتى غير رسمية ، يختفي ذلك البُعْد تماماً..

Thursday, March 29, 2012

السؤال الثالث : حد عايز دولة مدنية؟

بدون غضب ، وبدون انفعال ، وبدون تسرع..

لنعترف أن أغلب أغلب أغلب أغلب من صوت للإسلاميين ، مع كل ما قلته عنهم (ولا زلت عند قناعاتي) وما لم أقله ، صوت عن اقتناع وتعاطف للإخوان والسلفيين .. ولهؤلاء كما نعرف لهم تصورهم للتمكين ، ولا يرضون بغير الحكم والسيطرة على الدولة بديلاً..

ولنعترف أن أغلب أغلب أغلب أغلب ممثلي المجموعات الدينية والمذهبية الأخرى من صوفيين وغيرهم قرروا الوقوف ضد الإسلاميين "السياسيين" والسلفيين ودعمهم للمال السياسي ممثلاً فيما يسمى بـ"الكتلة المصرية" ، ليس حباً في الليبرالية ، ولا التنوع الفكري ، ولا هذا الهجص ، وإنما إيماناً أيضاً بنفس نظرية التمكين ، بشكل مختلف بعض الشيء عن التصور السلفي له ، بمعنى الاكتفاء بالسيطرة على الأزهر والمؤسسات الدينية الأخرى وتوحيد الناس تحت القيادة السياسية- الدينية لشيوخ الطرق ، وطمعاً في شكل دولة يشاركون فيها كمنتمين للخط المذهبي ، خذوا بعين الاعتبار كمية أفكار "الخلافة" الموجودة في الموروث الفكري للصوفية الطرقية في مصر ، مضافاً إليها أوهام عن كون الشخصية المصرية - من وجهة نظرهم وما يُشَبَّه لهم - صوفية طرقية ، هراءات يسهل على أي شخص يمشي في أي شارع في مصر تفنيدها عندما يجد أغلبية كبيرة من الناس ، حتى لو كانت أغلبية حسابية Arithmetic Majority، مثل كاتب هذه السطور ، مسلمون سنة مستقلون.. وضع تحت كلمة مستقل ما شئت من خطوط يراها الكفيف في عز الظهر....

ولنعترف أن المؤسستين الدينيتين في مصر ، أزهر أو كنيسة ، قررا الدخول في اللعبة السياسية ، لا حباً في الليبرالية والديمقراطية والاعتدال وكل هذه السخافات ، ولكن من أجل المزيد من النفوذ ، الأزهر مثلاً بدأ يفكر مثل داخلية "زكي بدر" التي اعتبرت مكافحة الإرهاب في الثمانينيات مسوغاً لنيل مزيد من الامتيازات والعطايا ، الأمر الذي أدى لاحقاً لفساد كبير في الجهاز الشرطي عرفه الناس عن قرب في موقعة الشعب-الألفي بعدها بسنوات ، كل ما طرأ على المعادلة هو عملية تعويض ، الأزهر بدلاً من الداخلية ، ومكافحة التطرف بدلاً من مكافحة الإرهاب ، والامتيازات هي أن يكون للأزهر "بصمة" على ما هو أبعد حتى من التشريع ..

حتى أغلب أغلب أغلب الناشطين الليبراليين المسيحيين لم يتحدوا ضد الإسلاميين السياسييين حباً في ليبرالية الدولة أو في مواجهة مخاوف على مستقبل المسيحيين في مصر على خلفية صعود الإسلام السياسي ، بل من أجل مزيد من التديين ، والمزيد من السلطات السياسية لرجال الدين على المجتمع المسيحي في مصر..

لكل هذه الفئات جمهور ، وجمهور كبير ، مضافاً إليهم نسبة يمكن اعتبارها مؤثرة من غير المسيسين والممذهبين نشأوا على معتقدات معينة عن "دولة الخلافة" و "الدولة الدينية" و "لا إسلام بلا أزهر" أو ما يقابلها على الجانب المسيحي ، ومن شديدي التأثر برجال الدين (الذين أصبح لبعضهم مصالح) ، وإعلام رجال الأعمال (1) ، وبعض المستنشطين الذين لهم مصالح فكرية ما مع سيادة تيارات دينية على حساب أخرى لزوم المصلحة الفكرية (وغير الفكرية) ، احسبوها بالورقة والقلم ستجدوا أن ما يقرب من 90% من تعداد الشعب يريد أن يمتد التأثير الديني لأبعد مما هو ديني صرف واجتماعي وسلوكي إلى السياسة والاقتصاد..

قد يكون لذلك ما يبرره ، البعض يرى في تبعيته لأي مجموعة ، ولو كانت مذهبية أو دينية ، قوة وحمايةً له ، وفي زعيمها وقائدها فتوةً وحامياً للحمى ومخلصاً ، يرى أفضل من الجميع ، ديناً واقتصاداً واجتماعاً وسياسة ، والخير كل الخير في اتباعه والشر كل الشر في عدم اجتناب نواهيه ، ثقافة موجودة في المجتمع مثلها مثل ثقافة الصوبة الزجاجية ، وكلتاهما رسختها أفكار الزعامة الدينية ، وليس من العقل تجاهلهما أو الاعتقاد بأنه يمكن التخلص منهما في يوم وليلة ، بما أن هدف الثورة ، أو يفترض أنه كذلك ، هو بناء دولة وليس مزرعة خيار، أضف لذلك حقيقة كون نسبة كبيرة منا من "المحافظين" ، والمحافظ في مرتبة وسطى بين المتشدد والمنحل ، وحتى المتحرر في المجتمع بداخله محافظ ، جزء من سلوك المحافظ في مصر وغيرها تمسكه بقيم دينية واجتماعية ، ويؤمن أبناء الشريحة المحافظة الكبيرة في طول البلاد وعرضها (ومنهم كاتب هذه السطور) بأن في الدين حلولاً لمشاكل كثيرة في هذا المجتمع ، لكن يبقى الخلاف حتى داخل هذه الشريحة المحافظة عن ماهية تلك الحلول ، هل هي -كلها- موجودة صراحةً في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، أم في تفاسير وأفهام قديمة للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة (كما يرى المحافظون الميالون للسلفية) ، أم في تفاسير جديدة للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة (كما يرى بعض الإسلاميين)، أم في ترك القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لمساحة من الاجتهاد لا يمس بثوابت الدين (كما يرى بعض الليبراليين وليس كلهم)، أم الإجابة هي (أ ، ب ، ج) معاً (كما أرى ومعي كُثُر)..

توزعت تلك الشريحة المحافظة الكبيرة التي تشكل أغلب قوام المجتمع المصري ، مسلمه ومسيحيه على السواء، بفعل ما تقرأه في الكتب أو تشاهده في الميديا أو تسمعه من رجال الدين ، بدرجات متفاوتة ، وعليه توزعت أفكارها على أطراف المسطرة ما بين تحفظ واعتدال وتشدد وانحلال ، نعم تبقى في أغلبها متحيزة للطروح التي ذكرتها في الفقرات الأربع الأولى ، لكن منها نسبة تؤمن بأن الدين لا يجب أن يتم استبعاده بالكامل من الحياة ، وتؤمن أيضاً بأنه (=الدين) ترك مساحات لما هو دنيوي فيما لم ينزل به نص ، وللتعايش مع الآخر أياً كان دينه ، وللمشاركة في البناء الدنيوي للمجتمع بصفة المواطنة ، وبالحرية في اختيار ما يؤمن به المواطن سياسياً والتصويت له ودعمه دون انتظار لأمر من أحد افعل ولا تفعل ، تحترم رجل الدين شيخاً كان أو قسيساً لكنها لا تلزم نفسها به عندما يخرج الأمر إلى حيز السياسة.. تلك النسبة سالفة الذكر قد تكون كبيرة كعدد لكنها قد تكون أيضاً قليلة التأثير مقارنةً بالأغلبية..

أحترم بالتأكيد قرارات الأغلبية ، لكن المشكلة في القرارات نفسها ، فهي تشبه المتنافسين على الكرة داخل ملعب كرة القدم ، مع الفرق أنه في حالتنا هذه اللاعبون كثر والفرق كثيرة ، لن تنفع معها الكرة المزدوجة التي رسمها "بهجت عثمان" يوماً لكي يرتاح الفريقان من التنافس ، بل ينفع معها الاتفاق على كلمة سواء ، وقبلها عرض المطالب بشكل واضح ، ودون ممارسة لسياسة إخفاء الكروت التي صار الكثير يمارسونها ، خصوصاً ممن يحاول إقناعنا بأنه يريد دولة مدنية..

والله أعلى وأعلم..
(1) التجار دائماً دالة في السوق ، من رجال الأعمال من هم محافظون ومنهم أيضاً ، مثلهم مثل الفئات المذكورة في الفقرات الخمس الأولى من التدوينة ، منافقو ليبرالية بداخلهم أفكار الشريحة المتشددة ، بل والمتشددة جداً ، من القسم المحافظ داخل المجتمع ..ربما أتناول تلك الفكرة باستفاضة أكثر في وقت لاحق بإذن الله..

Sunday, March 25, 2012

الآتي بعد : البابا القادم ، بعين محايدة

أولاً أقدم خالص التعازي لكل المواطنين المسيحيين شركاءنا في الوطن في وفاة البابا شنودة الثالث ، والذي حظي على مدى سنوات بتقدير واحترام كبيرين من فئات كبيرة من الناس داخل مصر وخارجها ، مهما اتفقنا أو اختلفنا مع آرائه ومواقفه .. الشيء المؤكد أنه برحيل البابا تنتهي مرحلة وتبدأ أخرى ، تستحق من الجميع ، مسلمين ومسيحيين ، التأمل بعمق والتفكير بهدوء ، هذه التدوينة هي محاولة مني ، لرؤية المسألة بعين محايدة ، وكما سبق الذكر ، لن أدخل -كمدون مسلم- في تفاصيل دينية بحتة ، وإنما سأسلك نفس النهج الذي بدأته قبل تسعة أشهر في تدوينة "قلق عام".. تذكروا شعار المدونة : محاولة للفهم لا أكثر ، قبل أن نخسر أكثر..

1-سيأتي البابا القادم ، أياً كان ، وأياً كانت خلفيته ، في ظروف تختلف كلياً وجزئياً عن الظروف التي أتى فيها البابا الراحل ، واقع سياسي جديد يتشكل ، وصعود للتيارات الدينية بما يشكله من قلق لدى المسيحيين المصريين ، ومحاولة تيار المال السياسي اختراق المؤسستين الدينيتين الرئيستين في مصر ، وبالتأكيد الدخول في عملية الدستور بتحدياتها ، الآن ، لم يعد هناك مجال للعزلة التي ضربت على المسيحيين ، أو لنظرية الصوبة الزجاجية التي أثبتت أنها تضر من يحتمي بها أكثر ما تنفعه ، وتخنقه أكثر مما تعطيه من حصانة.. لكن هل ستساعد المؤسسة الدينية المسيحية المسيحيين على الخروج من الصوبة والمشاركة جنباً إلى جنب كمواطنين في بناء وطن بمقاييس جديدة؟ وبأي كيفية؟ للتذكير : أفراد أي مجتمع في أي مكان يعتنق أفراده أي دين ليسوا على شاكلة واحدة ، منهم المتدين ومنهم غير المتدين ، منهم المعتدل والمتطرف ، المتزمت والمحافظ والمتحرر ..

2-سيرث البابا القادم انتقادات وجهت للكنيسة المصرية وموقفها من الثورة بشكل عام ، انتقادات تعاظمت بالتأكيد بعد توابع الثورة ، سواء الحوادث الطائفية أو أحداث "ماسبيرو" أو التحالف مع قوى المال السياسي ، فضلاً عن موقفها من المجلس العسكري ، و .. ، و... بالتالي سيكون عليه امتصاص غضب المسيحيين المنتمين أو المتعاطفين مع "الحركات الثورية" باتخاذ ردود فعل "قوية" لا تجعل المؤسسة بمعزل عما يحدث في مصر ولا يجعلها تقف موقفاً سلبياً ، وتطمين عامة المسيحيين المتخوفين من تيارات الإسلام السياسي والتيارات المذهبية ، وهو ما قد يستتبع الدخول في العملية السياسية والدستورية ، تأييد تيارات وأحزاب بعينها ، بناء شبكات علاقات جديدة ، وهو ما قد يثير موضوع علاقة المؤسسة الدينية ، أي مؤسسة دينية ، أزهر أو كنيسة ، بالسياسة ، في دولة يفترض بها أن تكون دولة مدنية ، لا تلعب فيها المؤسسات والمجموعات الدينية دوراً سياسياً..

3-هناك ألف رأي ، وألف وجهة نظر ، وألف موقف ، هناك من رأى أن الثورة ستكون فرصة لإنهاء (ما يعتبرونه) تمييزاً ضد المسيحيين في مصر ، وهناك من انتقد الثوريين وربما الثورة لأنها تسببت في صعود الإسلاميين إلى السلطة أو اقترابهم منها ، وربما قد يهدد ذلك الدور الاجتماعي والسياسي للكنيسة (الذي يعتبرونه حمائياً) والذي كان وراءه صفقات مع النظام السابق ، ولا حل لحمايته إلا بصفقات جديدة وتربيطات وعلاقات (قد تكون بالتأكيد على حساب مدنية الدولة) ، هناك من يريد أن تكون الكنيسة هي الصدادة الدينية والسياسية للمسيحيين (وسيطالب بمزيد من التدخل الديني في الشأن الدنيوي والسياسي) ، وهناك من يريد دولة مدنية فعلاً ويقتنع أن المواطنة في ذاتها أساس يحدد علاقة المواطنين بعضهم ببعض دون تدخل من أي مؤسسة دينية كانت ، وهناك من يتستر بالدولة المدنية لتحقيق مصالح طائفية ومزيد من النفوذ (ولا مانع لديه في سبيل تحقيق ذلك من تدخل المؤسسة الدينية)، وهناك من يتمرد على كل شيء ، ويدخل الدين في حسبة تمرده على كل شيء (تماماً كأقرانهم من المسلمين).. وتضيف المجموعة الأخيرة المتسعة تحدياً أكبر للبابا القادم لاستعادتهم مرة أخرى إلى الكنيسة ، واستقطابهم بعيداً عن تيارات أخرى داخل الوسط المسيحي كي لا يشكل ذلك تهديداً للحضور الاجتماعي القوي للمؤسسة الدينية المسيحية الذي شهد تزايداً في السنوات الأخيرة..

4-في استنتاجي ، وقد يكون خاطئاً ، أن هناك صراع أجيال داخل الوسط المسيحي وحتى داخل المؤسسة نفسها بين جيلين ، الجيل الأول هو الجيل المحافظ ، المتمسك بقيم ليبرالية ولكن في إطار خطوط حمراء ومبادئ وثوابت وقيم ، مصدرها يرتبط عادةً بثقافة الطبقة الوسطى في فترة الأربعينيات والخمسينيات ، والجيل الثاني في مجمله يتحدث كثيراً عن ليبرالية ولكنه متشدد ، أفكاره لا تختلف الشيء الكثير عن أفكار المتشددين الإسلاميين أنفسهم ، ولكن طبعاً بنسخة مسيحية ، تبدو ثقافته مستوردة متأثرة بمن عاشوا في المهجر ، ولديهم دور ثقافي في ما يخص الجانب المسيحي من التوتر الطائفي ، من الآخر .. وكسب هذا الفريق الأخير أرضاً في زمن قياسي ، وصار له تواجد ، وصار صوته أعلى ونفوذه أقوى.. واستثمر أحلى استثمار في "الاحتقان الطائفي" ليقدم نفسه كفتوة ومخلص وحامٍ للحمى ، وعزز الاستثمار باستثمار جديد في الحالة الثورية.. وكل منهم يريد طريقة وسياسة معينة تتدخل بها الكنيسة في الحياة العامة فيما هو بعيد عن الشأن الديني ، وبين أولئك وهؤلاء كما قلت سابقاً بعض الليبراليين الحقيقيين (أي لا علاقة لهم بمن نراهم في الميديا) من هذا الجيل وذاك يرى أن أوضاع المسيحيين في مصر كانت أفضل دون أن تلعب الكنيسة دوراً سياسياً صارخاً ، ووقت أن كان المسيحيون أحراراً في الانضمام إلى أي حزب يريدون (من أقطاب الوفد والحركة اليسارية في مصر شخصيات مسيحية بارزة)..

انحاز البابا القادم لهذا أو لذاك ، تحرك في اتجاه السياسة بأي سرعة أو لم يتحرك ، أبدى اعتدالاً أو تشدداً ، سيكون رد الفعل على الجانب الآخر في ظل إلحاح على الزعامة الدينية (محدش بيعرف يعمل لهم حاجة علشان ليهم بابا وليهم زعيم واحنا لازم يكون لينا بابا ولينا زعيم) بنفس الشكل والمضمون والسرعة والقوة ، مع استمرار الاحتقان والتخندق ستصبح المسألة هكذا ، فعل ورد فعل ورد رد فعل ، تطرف هو سنتطرف نحن ، قام بصفقة تتخلى فيها الدولة عن دورها في أمور ما لتتركها له سنقوم نحن بنفس الشيء ، ومن يشمبر لنا نشمبر له.. ضعوا في الاعتبار أن هناك قوى سياسية تريد أن تجعل من الأزهر مؤسسة دينية لها لدى المسلمين نفس الوضع ، أو قريباً منه ، الذي تملكه الكنيسة بالنسبة للمسيحيين .. (رغم أن هذا ليس من اختصاصات الأزهر وليس من دوره ولا ينبغي أن يكون)..

ليس من السهل على أي شخص أن يقود أي مؤسسة دينية لأي دين كان ، سواء أكانت فكرة المؤسسة الدينية موجودة بداخل ذلك الدين من عدمه ، كل خطواته ستحسب عليه بالتأكيد ، أما اعتدالاً وتسامحاً وإما مزيداً من التطرف واللعب بالديناميت..

Thursday, March 22, 2012

مرضى التمكين

لماذا أشعر أن كثيراً من الأضداد في حياتنا متشابهون كنقط الماء؟ لماذا أشعر أنهم كلهم يقودوننا لنفس السكة ونفس الطريق ، حتى وإن اختلفت المصطلحات أو تباينت العبارات أو تفاوتت طرق توصيل المعلومة؟

لماذا أشعر أن الليبرالي الذي يريد نظاماً رئاسياً مطلقاً دون وضع أي وزن للأحزاب السياسية في المجتمع يوصلني لنفس السكة التي يوصلني إليها متشدد يقول بأن الأحزاب السياسية حرام؟ لماذا أشعر أن هناك متاجرة باسم الثورة بنفس الطريقة التي تتم بها المتاجرة باسم الدين؟ لماذا أشعر أن الأتاتوركي (ولدينا منهم ، كفانا إنكاراً واستعباطاً) يريد تنميط الناس باسم الدنيا بنفس الطريقة التي يريد بها بعض الإسلاميين تنميطهم باسم الدين؟ حتى فكرة التمكين موجودة لدى الطرفين ، وبشكل صارخ وزاعق ، ستتوه بالتأكيد وسط المصطلحات كما تهت سابقاً ، ولكنك "قد" تصل إلى نفس النتيجة..

الفرق الوحيد بين الإسلاميين وغيرهم ، مع تمسكي التام بكل ما قلته قبل فترة عن الإسلاميين بالتحديد ، أن فكرة التمكين موجودة لديهم بشكل معلن وشديد الوضوح ، حتى وإن حاول بعضهم إخفاءه ، أما بعض الليبراليين الأكارم فلديهم نفس النظرية ، لكنهم ينكرونها تماماً ، يقومون بدهلزتك وتتويهك في كل شارح وحارة وزخنوقة ، مع إمطارك بشعارات من عينة الآخر والتعاون مع الآخر والتسامح والمش عارف إيه ، لتنتهي إلى أنك ستفاجأ بتمكين ، مثل التمكين عند الإسلاميين ، ودمتم..

فكرة التمكين كما أراها هي إما أن تكون الكابتن يا مفيش لعب ، أن تفرض نموذجك بنسبة 100% على الدولة بأكملها بمن فيها ، سياسةً واقتصاداً وإعلاماً وكله الحقيقة ، واللذيذ كما سبق أنه لدى الليبراليين (النسخة المصرية) (1) تمكين ، أي أنه لدى من يتحدث عن الآخر فكر يلغي الآخر..ليس لدى أولئك أو هؤلاء أي نية أو استعداد للعمل مع أي آخر ، لا الإسلاميون يرحبون بالعمل مع اليسار ، ولا اليسار يرحب بالعمل مع الإسلاميين ، ولا الليبراليون يرحبون بالعمل مع الاشتراكيين ولا الإسلاميين ،فطبقاً للنظرية ، لا حل للمجتمع إلا باتباع النموذج بنسبة 100% دون زيادة ولا نقصان ، package بكامل مشتملاتها ، حزمة لا تحتمل إلى جانبها أي مركبات يتم تحميلها من أي مصادر أخرى..ثم تسمع كلام البعض عن "ضرورة مشاركة الجميع في صنع الدستور" وعندما تفاجأ بالحقيقة تدخل في نوبة ضحك هستيرية بعدها تشعر ببعض الحرارة على قفاك.. عدم اللمؤاخذة..

لا يوجد نموذج واحد لديه كل الحلول بنسبة مائة في المائة ، يفترض أن يوجد نوع من التكامل أساسه الاختلاف والتباين الذي فطرنا الله عز وجل عليه ، الخبرات موزعة على الناس -رزق يا سادتي الأكارم - بغض النظر عن الجنس أو اللون أو الدين فما بالكم بالفانلة السياسية ، ما دام هؤلاء أو أولئك يريدون المصلحة العامة فليعملوا معاً فحسب ، دون أن يلغي أو يكفر أو يُجَهِّل أو يُكَنِّب أي منهم الآخر ، هناك مشتركات يمكن الاتفاق عليها ، وهناك تباينات يمكن التسامح فيها ، لكن ما أراه وما قد تراه أقرب إلى لعب الشوارع منه إلى بناء دولة..

ختاماً ، وقبل أن أسمع "إيه يا عم؟ كل الناس غلط وسيادتك اللي صح" أقول بأنني أرى -وقد يكون ذلك خطأً- أن الله عز وجل خلق أموراً كثيرةً في الدنيا كالمسطرة ، كما أن للمسطرة طرفان فإن بينهما العديد من النقط ، يمكن لأي إنسان أن يقف في أي منها ، ليست كل المساطر أطراف يا سادة.. والله أعلى وأعلم..
* تذكرت الراحل الكبير "أحمد بهجت" في كتاب له - "أهل اليسار يا ليل" - وهو يتحدث عن الشيوعي المصري الأكثر تعصباً من "لينين" و "تروتسكي".. كان الرجل محقاً في كلامه لأبعد حد ، خاصةً وأن كلامه يستقر على كثيرين من انتماءات أخرى.. رحمه الله رحمةً واسعة..

Sunday, March 4, 2012

السقف الأخير

إذا كان السقف في اللغة يرمز لما هو "أقصى" فإن سُقُقَاً كثيرة قد تهاوت ، خصوصاً ما كان يتعلق منها بسقف المقبول وسقف المعقول وسقف ما يمكن تحمله ، كالعادة نفاجأ حين يحدث شيء ينبئ بانهيار في سقف ما ، من جملة سُقٌف حياتنا المنهارة ، أو الآخذة في الانهيار ، نفاجأ به كما لو كنا لا نعرفه ، ولا نصدق بإمكانية حدوثه ، وشواهده تتوالى أمام أعيننا ليل نهار ، وننظر إليها في تناحة واذبهلال ، نتصرف معها كأفراد ، ولو بعقولنا ، ولو بقلوبنا وهذا أضعف الإيمان ، بنفس الطرق التي لطالما لمنا عليها حكومات ونظم متعاقبة ، إما ببرود واعتياد "الكلام دة بيحصل في كل حتة" ، أو باستخفاف "مش معقول الكلام دة يحصل في مصر" ، أو بتهوين "مش للدرجة ، الموضوع ما وصلش لدرجة..." .. وتكون النتيجة أن تفاجأ بمصيبة ، عادةً كبيرة ، تتساءل حولها وحول ملابساتها كما لو كنت قد فوجئنا بها ، نسخن لنصل لدرجة الغليان ، ثم نبرد ، ثم نهيئ أنفسنا للاعتياد عليها..

الخبر الذي قرأته قبل ساعات لا يحوي من الجاذبية ما يقيم الدنيا ويقعدها ، ربما لخلوها مما قد يعده البعض "بعداً طائفياً" .. بمعنى أنه "لو اتنين مسلمين ولعوا في بعض مش مشكلة ، لو اتنين مسيحيين ولعوا في بعض مش مشكلة ، إنما لو واحد من هنا وواحد من هنا".. بل غرابة الحادث نفسه بشكل قد يجعله معتاداً في المستقبل ، بل ومقدمة لما هو أسوأ ، لألخص لكم الأمر أولاً ، وهو كفيل بنسف سقف مصطلح "مشكلة/ مش مشكلة" لديكم..

لأول مرة في تاريخ مصر ، وربما في ما أعرفه من تواريخ دول أخرى تصبح فيها دار للعبادة هدفاً للسطو المسلح.. تخيلوا..

نعم ، هاجمت قبل ساعات مجموعة من البلطجية مسجداً في قرية "فيشا الكبرى" بمحافظة المنوفية ، قتلوا اثنين ، أصابوا ثلاثة ، واستولوا على أموال الزكاة ، وطبعاً ، هربوا..

الجريمة ، التي لا وصف لها إلا تلك العبارة ، تمثل سابقة أولى في كل شيء ، صحيح أنه من المتوقع في ظل انتشار موجة التطرف الديني إسلامياً ومسيحياً على السواء صار من المتوقع نظرياً أن يتعرض دار عبادة ، مسيحي أو مسلم ، للهجوم من متطرفين متعصبين ، لكن الجديد أن الهجوم جاء من مجرمين جنائيين ، وشتان ، وهذه هي المفارقة المرعبة والمذهلة ، بين علاقة المتطرف المتعصب بدار العبادة في دينه ، وبين علاقة المجرم الجنائي بنفس المكان ، علماً بأنه في الغالب "ما بيركعهاش".. صحيح أنه من المتوقع أن يهاجم متطرفون دار عبادة دين آخر ، حدثت ، وتحدث ، وربما تتكرر ، لكن الجديد أن الهجوم غالباً جاء من مجرمين ينتمون لنفس الدين ، مسلمون يهاجمون مسجداً على نفس المذهب ولأسباب غير عقائدية ، من المتوقع أن يهاجم سين من الناس دار عبادة لداع ديني أو مذهبي ، لكن الجديد والصادم أن يهاجم ذلك السين داراً للعبادة بغرض السرقة!

نعم ما حدث صادم ، ليس فردياً في اعتقادي ، بل سيكون مقدمة لأشياء أسوأ ، وبمراحل ، وسيكون تمهيداً لسقوط سُقٌف أكثر وأكبر ، لكن..

لكن هل كان ذلك مفاجأة بحق؟ هل كان اعتيادنا للسرقة من المسجد تمهيداً لقبولنا سرقة المسجد نفسه؟ في البداية كانت سرقة الأحذية ، تلتها سرقة مصاحف ، تلتها سرقة ميكروفونات ، تلتها سرقة معدات ، ثم تحولت تلك السرقة من خفة اليد إلى "مرزبة" السلاح ،بالسلاح يا حبيبي بالسلاح مع الاعتذار لـ"عصام الشوالي" .. في البداية "أنا لا ممكن أسرق في رمضان" ثم "أنا ممكن أسرق أي حتة إلا الجامع بيت ربنا" ، إلى ما حدث ، وقريباً ستكون السرقة المسلحة في نهار رمضان.. استنكار في البداية ، تململ بعد ذلك ، ثم اعتياد..

كيف نرى نحن فكرة السقف؟ هل هو السقف الذي يغطيك ويحميك سواء من برد الشتاء أو من قيظ الصيف ، أم السقف الذي يحجب عنك النور والماء والهواء ويحجر على حريتك ويحول بينك وبين كل ما تعتبره "حقك" من مصالح وشهوات وملذات ، المشروع منها وغير المشروع ، القانوني وغير القانوني ، المباح اجتماعياً وغير المباح ، الحلال والحرام ، كيف نرى علاقتنا نحن بالسقف؟ من علاقة حب لهذا السقف ، إلى علاقة اعتياد وتعايش مع وجود سقف ، إلى علاقة ضجر من وجود سقف ، إلى كراهية السقف، إلى علاقة رغبة في كسر السقف، إلى اعتياد (وتبرير) كسر السقف ، إلى البحث عن سقف أعلى لكسره..

ما هو تعريفنا نحن لكلمة "سقف"؟ لفكرة الخط الأحمر في حياتنا ، سواء كان ديناً أو قانوناً أو عادات أو تقاليد أو أعرافاً أو أي شيء آخر..أم "أنا السقف" : الاحتياجات والمطالب والأطماع ، الثروة والسلطة والسلطوت ، وعلى ذلك كلما كان المرء أقوى كلما كان سقفه أكثر مناعة ، كأننا تماماً في غابة برخصة.. أعلى سقف للأسد ، والأرانب "تولع".. "الدنيا دي دنية أسود ، مش دنية أرانب" كما قيلت في "شاهد ما شافش حاجة"..

ما السُقُف أو السقوف لدينا على وجه التحديد؟ أشخاص نظام سياسي أم فكرة النظام ، أشخاص رجال تنفيذ القانون أم فكرة القانون ، أشخاص رجال الدين أم فكرة الدين ، هل تشابهت السُقُف علينا إلى درجة صرنا فيها نتعامل مع الأسرة كسلطة ، ومع القانون كسلطة ، ومع الدولة كسلطة ، وربما ، مع الله عز وجل ، كسلطة ، وما أدراك ما موروث الناس عن السلطة.. وطرق العمل والتعامل معها .. ومهما تعددت السلطة وتنوعت أشكالها فالقاعدة واحدة : كل ما يحول بيني وبين "حقي" أو ما أعتبره كذلك فهو سلطة ، سلطة تستحق التمرد عليها والعصيان بكل الطرق.. حتى ولو لم يكن سلطةً من الأساس..

إن تكسرت كل السُقُف .. فما هو السقف الذي يبقى؟ وإن تم تخطي كل الخطوط الحمراء ، ما هو آخر خط أحمر تحرص على بقائه؟ هل هو "حقك" بالمعنى الفضفاض للكلمة ، والذي تخط حدوده وتحدد معالمه بما يوائم مصلحتك ، "الفلوس دي حقي وح أخدها ولو بالسرقة ، الست دي حقي وح آخدها ولو بالغصب ....الخ".. هذا المعنى الذي ربانا عليه إعلام الحراك السياسي قبل الثورة ، ورسخته بلطجة رأس المال وعربدة ممارسة السياسة التي تختلط أحياناً بالدين وبأشياء أخرى ..من العادي -جداً- أن يتظاهر المرتشي جنباً إلى جنب مع صاحب الحق من أجل طلب فئوي تستغرب أن يطالب به المرتشي ، وأن يعتبر البعض الامتياز حقاً والمكرمة حقاً والحرام أحياناً حقاً..عادي واعتيادي

هل أسهم المناخ العام في كل ما سبق؟ إعلام لا يعرف إلا مصلحته ، يعمل لحساب رجال أعمال وساسة لا يعرفون ، هم الآخرون ، إلا مصلحتهم، ورجال دين تفرغوا لممارسة السياسة وأحياناً للصفقات السياسية والترويج للمرشح العلاني وتقديم خدمات للحزب إياه أو الحركة إياها ، التصوير في الميدان والتسجيل في الفضائية ، والترويج للرئيس الخليفة المنتظر سواء أكان ليبرالي الخلفية أو إسلامي الخلفية، فكل ما يحدث من ترهات لا يشغلهم في شيء رغم أنه يحدث أمام عينيهم وأعينننا ، ولا نأخذ منهم إلا مسكنات "لما ييجي الرئيس كل حاجة حتتصلح" ، "لما حيقيم الرئيس العدل ولا حاجة من دي حتحصل".. (حتى العدل أصبح تعريفه هو الآخر فضفاضاً ونسبياً للغاية).. ولا ننسى الناشطين إياهم الذين كانوا رواداً في أحيان كثيرة في التخلص من أمور لطالما اعتبروها ثوابتاً وسُقُوفاً وخطوطاً حمراء ، يحدثونك عن دولة مدنية ويتحالفون مع رجال دين ومؤسسات دينية ، يتحدثون حسب الطلب عن الانفلات الأمني ، يصعرون خدهم لمن يختلف معهم في رأي أو على مرشح ، ويتعاطفون مع بلطجي وقاطع طريق ، ويضعون تعاريفهم الخاصة لكل شيء ، حسب الطلب -مثلهم مثل الساسة ، ومثل شريحة من رجال الدين-للدولة ، وربما للدين..والأسوأ منهم فريق اعتبر الثورة ctrl+c و ctrl+v .. أشخاص لا قيم ، تمكين لا واقع..

استغربوا كيف شئتم ما قلته واستهجنوه واستسخفوه ، قد أرى في ذلك شيئاً إيجابياً ، على الأقل هناك ما نستهجنه بما أننا مؤخراً اعتدنا على كل شيء ، صداقة مع القبح وحميمية مع "الأباحة" وتعاون مع الفساد وعشرة عمر مع أشياء أخرى كثيرة ، اعتبروا ما قلته تسميعاً لأشياء كتبت عنها سابقاً ، تململوا كيف شئتم ، لكن سيكون عليكم ، وعليّ بالتأكيد كواحد من عامة الناس ، وعلينا جميعاً أن نبحث أولاً عن سقف لم يتم كسره بعد ، ثم عما سنفعله إذا سقط السقف أو أسقطناه ، علماً بأن السقف إذا ما سقط فوق دماغ أحد فقد يقتله..

حد عايز يتقتل؟.. حد له شوق في حاجة ، كما قيلت على لسان "محمود عبد العزيز" في الفيلم الدموي "إبراهيم الأبيض"؟
* الصورة من الموقع وهي صورة "أرشيفية" وليست لما حدث في المنوفية ، لذا لزم التنويه..