Monday, October 31, 2011

التنظير لتسييس دور العبادة ..على طريقة فيلم "العار"

لو حلال .. أدينا بنشربه.. لو حرام .. أدينا بنحرقه- جملة في فيلم "العار"

كنت فكرت بجدية في تجنب الكتابة عن السياسة على مدى الشهر القادم ، بما أن السياسة - في رأيي - لعبة مقرفة والكلام عنها مقرف أكثر وأكثر ، وكنت بصدد إعداد ملف كامل يتضمن علاقة الفنون بالدين مرة أخرى ، ومنه ملف فرعي صغير عن "سينما الدين والمتدينين" كنت سأتناول فيه من قريب فيلمي "العار" و "بحب السيما".. إلا أن..

إلا أني قبل ساعات شاهدت جزءاً من فيلم "العار" الذي لا أمل مشاهدته بما يحويه من جدل فكري وأخلاقي لم يوقفه الزمن الطويل الذي مر منذ عرض لأول مرة ، ذلك الجزء الذي لم يعدم فيه أبناء "الحاج" حيلة في تبرير تحولهم الأخلاقي باسم الدين ، من رفض تجارة المخدرات "الحرام" إلى استحلالها لأنفسهم.. خاصةً مشهد "شكري" (=لعبه "حسين فهمي") وهو يشرح لـ"عادل" (=لعبه "محمود عبد العزيز") كيف أن أموال "تجارة المخدرات" حرام بالنسبة لشقيقهم الأكبر تاجر الصنف "كمال" (=لعبه "نور الشريف").. حلال زلال له ولشقيقه الآخر بما أنهما لا يعرفان أن شقيقهما الثالث تاجر مخدرات!

لمن يرى أن ذلك كلام أفلام ، تحكمه المبالغات "المقبولة" في عالم الفن ، أعرض عليه مثالاً واحداً قرأته قبل ساعات قليلة جداً ، هذا المقال الذي قرأته قبل قليل .. والذي لا يقدم فقط تبريراً لاستخدام دور العبادة في الأغراض السياسية ، بل تكاد تسمع عبارات "حسين فهمي" في الفيلم سالف البيان وأنت تقرأه ..

عبارات الحلال والحرام الجميلة ذات المردود الديني والأخلاقي تتذكرها ، نفس الآيات القرآنية التي سمعناها في هذا الجزء من الفيلم لتبرير تجارة المخدرات تتذكرها عندما تقرأ افتتاحية المقال :

لطالما نادت أصوات -من مختلف التيارات السياسية- بمنع استخدام دور العبادة في الدعاية السياسية، والسبب منطقي؛ فالمسجد ملك لكل المسلمين، والكنيسة ملك لكل المسيحيين، على تنوع واختلاف الاتجاهات السياسية لهؤلاء وهؤلاء، فلا يحق لفئة منهم أن تستفيد من "قوة الكلمة" التي تقال من فوق المنبر، أو من على منصة الوعظ لصالح حزبها أو فصيلها السياسي، على حساب منافسيها.

كلام زي العسل .. كلام جميل .. وكلام معقول .. ماقدرش أقول حاجة عنه .. إلى أن تقرأ:

ولكن ثمة تفرقة لا بد منها بين "ممارسة دار العبادة للدعاية السياسية" و"ممارسة دار العبادة للسياسة بشكل عام"، فإن كان النشاط الأول مرفوضا للسبب سالف الذكر، فإن النشاط الآخر -في رأيي- لا ضرر منه.

وهنا .. يتوقف الكاتب لوضع ملعقة عسل صغييييييييرة أخرى..

فهناك فارق يجب أن ننتبه إليه بين "ممارسة الدعاية" و"ممارسة النشاط السياسي"؛ فالأمر الأول يعني أن هذا المسجد أو تلك الكنيسة قد انحازا لجانب فئة بالذات من أهل المجتمع، عندئذ فقد انتفت صفة "الملكية العامة" من أهل الدين لدار عبادتهم، وأصبحت دار العبادة تابعة للفئة/ الشخص محلّ الدعاية، فضلاً عن أن إضفاء غطاء ديني على تيار أو شخص سياسي يعطي أفعاله ومواقفه نوعًا من "الحصانة" ويلغي حكمة "الاختيار" الشعبي، مما يعني بالتالي انتقاص حرية صاحب الصوت في استخدام وتوظيف صوته وفق قناعاته الشخصية.

ليبرر به كيلو السم الذي سيضعه :

أما ممارسة النشاط السياسي فهي مسألة تعني أن تقوم دار العبادة بدور سياسي عام محايد لا ينحاز لتيار أو شخص بعينه، بل يتعامل مع أهل المسجد أو رعية الكنيسة بشكل عام، يراعي الإجماع الوطني على هذه القضية أو تلك، كأن يقوم المسجد مثلاً بتوعية حضور الخطبة بضرورة إلغاء المحاكمات الاستثنائية للمدنيين، أو أن تنادي الكنيسة في رعيّتها بضرورة التمسك بمطلب إلغاء الطوارئ... إلخ.

ثقافة النقاق والتزييف هي في الأساس ثقافة مزايدة ، حاول منافقو العقيدة خداع الرسول (ص) كما بين القرآن الكريم بالإلحاح على إظهار أنفسهم بأنهم "مؤمنين" يشهدون بأن الرسول (ص) رسول من عند الله ، ليرد الخالق سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات بأنه لا جديد فيما يقولونه الذي ليس إلا محاولة للتغطية على غشهم ونفاقهم..

نفس الأمر مع الفارق ينطبق مع قضايا إلغاء المحاكمات الاستثنائية أو إلغاء الطوارئ أو تلك القضايا التي هي قضايا أغلبية وطنية إن لم تكن قضايا إجماع وطني بالفعل ، نحن نعرف أن المحاكمات العسكرية للمدنيين (في أي عصر) مرفوضة ، وأن قانون الطوارئ مرفوض (برضه في أي عصر) فلماذا المزايدة وحشر دور العبادة فيها ، وهناك وسائل إعلام صارت أقوى تأثيراً وألحن حجة بعد انحسار الدور الديني والأخلاقي لمؤسستي الجامع والكنيسة ، أم أن الكاتب لم يدرك ذلك الانحسار الذي يراه الكفيف بوضوح في عز الظهر؟


لم يكتفي الكاتب الفاضل باعتبار انحسار الدور الديني والأخلاقي ، (الذي تدهور إلى حد التحريض الطائفي في بعض الحالات ، بكل أسف) أمراً من أمور الخيال العلمي (هكذا يظهر في المقال) ولكنه يصر بالتبرير قياساً على أمثلة استثنائية في ظروف استثنائية ، أما مثال الثورة فعليه ألف علامة استفهام وتعجب ، بما أن المؤسستين الدينيتين الكبيرتين (الأزهر والكنيسة) تبنتا موقفا غامضاً من ثورة 25 يناير.. ودور العبادة تتبع المؤسستين بطريقة أو بأخرى إلا إذا تحدثنا عن المساجد الأهلية غير الأوقافية مثلاً ، ومعظمها يتبع تيارات مذهبية كان لها نفس الموقف الغامض من الثورة ، وبعضها يتبع بعض جماعات الإسلام السياسي وأشهرها "الإخوان".. الذين كان لهم موقف ضد النظام الذي ضيق عليهم ووضع قياداتهم في السجون وحاكم بعضهم عسكرياً أكثر مما هو ضد "المباركية" الذي يفترض أن الثورة قامت لإسقاطها ..

بل أبى إلا أن يرصع المقال بفقرة لا تقل في قوة إضحاكها عن بعض إفيهات أفلام "محمد سعد" :

ربما يخشى البعض المناداة أو القبول بممارسة دار العبادة هذا الدور؛ خشية أن تتجاوزه لتقع في خطأ الدعاية السياسية، ولكن متى كان الخوف مبررًا لعدم التجربة؟ ثم إن خوفًا كهذا ينطلق من فكرة غير مقبولة ومهينة للشعب المصري تتهمه دومًا بانعدام الكفاءة العقلية وانعدام الوعي وتلقائية الوقوع في الخطأ، واعتبار أن سوء تفاعل المصريين مع الحرية السياسية هو الأصل أما إجادتهم ذلك فهو الاستثناء، وهذا افتراض ظالم ومرفوض وشديد الغرور والتعالي..ما المشكلة في أن يجرب المصريون استعادة جزء من قوتهم الشعبية ما دام أفادهم وأضاف لتاريخهم؟ وعلام الخشية من الخطأ إذا كان الإنسان لا يتعلم -عادة- إلا بالتجربة والخطأ ثم التجربة والإصابة؟(1)

آه انت كنبة ووحش ونهيتك ما انتهيت ..الخ .. بس انت حلو وزي الفل وعاقل وتقدر تميز يا حبيبي .. ليه ما تعملهاش؟

هل يعلم ما يعلمه كثير من عامة الناس ، وليس الساسة ولا المثقفين فقط ، أن حالة الاستقطاب السياسي امتدت للمنابر ، وبعد أن كان لدينا خطباء "حزبوطني" و خطباء "إخوان" و خطباء "سلفيين" و خطباء "طرق" أصبح هناك لحركات وائتلافات وأحزاب خطباء محسوبين عليهم ، وهناك خطباء بعضهم مرشح لمجلس الشعب؟ وبالنسبة لكل من تلك التيارات هناك قضايا يراها (="التيار") قضايا "إجماع وطني" - بما أن كل التيارات في مصر تمارس الإقصاء ضد كل مختلف عنها ، قول إني غلطان- وبالتالي لا تتورع عن استخدام كل الوسائل ، باسم الدين ، وباسم الوطن ، للدعاية لها ، وبالنسبة لأتباع تلك التيارات ، هذه القضايا قضايا إجماع وطني ، وإن لم يتكلم فيها ذلك الشخص الظريف المحترم الواقف على المنبر فستطلق عليه سلسلة من الأوصاف تتدرج من حيث الأدب من "شيخ السلطة" ، إلى "دة شيخ الجماعة الفلانية" ، إلى "دة بيجامل الائتلاف الفلاني" ، إلى "دة بيـ *** للائتلاف العلاني" ، إلى الألفاظ البسيطة والمركبة إياها ، إلى توجيه دفة الهجوم بالأوصاف المنتشرة للأب والأم..

في ظل التعصب والتخوين بل والتكفير يصعب الكلام عن احترام حرية الآخرين ، في أي مجتمع كان ، مهما بلغت درجة ثقافته ، ومهما بلغت درجة وعيه .. بل كلما زاد التعصب كلما انعدم الفرق بين الاستخدام السياسي "الحلو" للمنابر ودور العبادة وبين الاستخدام السياسي "الوحش" ..

الأمر لا يحتمل الآن محاولة وخطأ ، من يحوم حول المحارم يوشك أن يقع فيها ، والمثل المصري يقول : "أول الرقص حنجلة".. والتجارة التي بررت في الفيلم بإنها تجارة "أعشاب" ارتكب باسمها أكثر من جريمة..

ختاماً.. من حق كاتب المقال ، ومن حقك بالطبع ، رفض كل ما قلته جملةً وتفصيلاً واعتباره كلاماً فارغاً ، ومن حقي أن أرفض ما قاله كاتب المقال ، وأرفض أسلوبه ومنطقه جملةً وتفصيلاً واعتباره أيضاً كلاماً فارغاً.. وقد ذكرت هنا أسانيداً وحيثيات قابلة تماماً للنقاش.. ومع اقتناعي بأن الخلاف في الرأي لا يفسد في الود قضية ، إلا أن الأسلوب الذي يتم تمرير بعض الآراء به ، والمنطق الذي تُجَزأ به المبادئ تجزيئاً ، يذكرني بأنه حتى مع "الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية" تبقى لكل قاعدة شواذاً.. عذراً للإطالة وحدة اللغة..
(1)باعتقادي أن بعض ممن قرأوا المقال سيقولون أن التيار الذي ينتمي إليه كاتبه سيقولون ، ولديهم بعض الحق ، أن التيار الذي ينتمي إليه الكاتب هو من اتهم المصريين بسوء التفاعل مع الحرية ووضع معظمهم في خانة "حزب الكنبة" ، ولا أستطيع أن أقول "كل الحق" لأني لا أعرف على وجه الدقة انتماء كاتب المقال ، وهو حقه وهو حر فيه ولا أبخسه عليه

Sunday, October 30, 2011

السؤال الثالث : وما هو دور الأزهر أصلاً؟

من المستفز جداً أن تجد عبارة ما ، يتم تداولها على لسان عدد كبير جداً من الناس ، ويتم اعتمادها بينهم كحقيقة صارخة ، في حين أن نسبةً منهم ، كما يظهر لي على الأقل ، لم تكلف خاطرها بالتفكير فيها أو محاولة فهمها.. ويشمل الكلام طبعاً الميديا التي تعشق ترديد مثل تلك النوعية من العبارات "اللي بتاكل مع الناس" وذات المردود "العاطفي" عاطفياً .. وعليه .. فمن حقي ، كواحد من آحاد الناس ، أن أتساءل ، ولو على سبيل الغلاسة الفكرية ، عن معنى تلك العبارة ، ربما أفهم وأنضم إلى طابور الفاهمين المرددين ..

هذه العبارة هي "دور الأزهر" أو "استعادة الأزهر لدوره" أو..أو..أو....


طبعاً "ما يروحش مخك لبعيد" وتتصور أن "الدور" المقصود هو الدور التثقيفي "التنويري" الذي "يلعبه الأزهر" من أجل "نشر الإسلام الوسطي" و..إلى آخر ما يعتقده "الشذج" من أمثال كاتب هذه السطور.. لأنه لو كان ذلك هو الدور المقصود للعبه الأزهر منذ فترة طويلة ، لكنه لم يفعل ، ولا يوجد أسهل لدى ثقافتنا ، بكل أسف ، من إلقاء المبررات بجميع أنواعها عندما يخطئ أي شخص .. "الأزهر مش مستقل" ، "كان تابع للحكومة" ، "إيد الأزهر مغلولة" .. وربما نصل في نهاية الأمر إلى سلسلة المبررات الشهيرة من عينة الشمس والزلزال وأسود ملك الحبشة..

وكأي شخص لا يجد "في وشه" إجابة واضحة ، من حقه أن يشتبه فيما يمكن أن يكون أقرب شيء إليها ، ومن الواضح ، والله أعلم ، أن المقصود هو "الدور السياسي للأزهر".. نقطة ومن أول السطر..

لنعترف أنه على مدى سنوات طويلة جداً ، تم تلقيننا عدد من الأشياء المسلية واللذيذة والظريفة جداً ، إما على المنابر أو من خلال البرامج التليفزيونية (باعتبار أن التليفزيون يبقى أكثر وسائل الإعلام تأثيراً فينا ، فنحن شعب تليفزيوني مع مرتبة الشرف) ، منها مثلاً وجوب وحدة أهلة الشهور الهجرية في جميع أنحاء العالم رغم انتشار المسلمين في مساحات شاسعة جداً منه كرمز لـ"وحدة المسلمين" (إيه علاقة دة بدة مش عارف) ، ومنها أن للأزهر دوراً (سياسياً) عليه أن يلعبه ، مستشهدين بأمثلة من فترات زمنية كان لها ظروف هي أبعد عن الواقع الحالي بعد "نيودلهي" عن "سان فرانسيسكو" ..

المطلوب من وجهة نظر أنصار تسييس الأزهر أن يبقى مؤسسة سياسية ، مثله مثل المؤسسات الأخرى في الدولة ، إن لم يكن سلطة أخرى تضاف إلى السلطات "اللي نازلة لأي دولة" : التشريعية والتنفيذية والقضائية ، لتصبح المؤسسة الرابعة أو السلطة الرابعة : الدينية.. مؤسسة هدفها "قيادة المسلمين" بالمعنى المستصوف ، قيادة دينية ودنيوية ، نفس ثقافة المرجعية العفنة التي ظهرت على فترات منها إبان ما يسمى بـ"الثورة الإسلامية" في "إيران" ومنها بعد غزو "العراق" في 2003 .. يفتي شيخ الأزهر فنسير كلنا كالقطيع وراءه ، يأمرنا بالتصويت فننزل جمييييييييعاً إلى صناديق الانتخابات (حتى وإن كنا غير مقتنعين بالأفاضل المرشحين ، ما هو العيب فينا ، حزب كنبة ابن (.....))، أي إلى صورة من المرجعيات الدينية التي تشترك في تمزيق الدين والوطن معاً .. وما "لبنان" عنا ببعيد..

وبالتالي مادام الأزهر ، صاحب الدور ، وما تنسوش : المرجعية ، له قيادة ، ويقود الناس ، يسهل على تلك القيادة أن تكون جزءاً من أي تحالف سياسي ، كما في الحالة اللبنانية أيضاً ، وكله في صحة الاعتدال والوسطية التي لا تنشر إلا بسياسة قيادة الخراف والماعز.. اللي همة احنا طبعاً..

أقبل الأزهر كدعاة وأئمة وكجامعة تعلم الناس وتثقفهم ، وتقدم خريجين سواء كانوا دعاةً وشيوخاً على المنابر ، أو أناساً درسوا العلم الدنيوي إلى جانب العلم الديني ، لتصل الثقافة المعتدلة المستنيرة لأكبر عدد ممكن من الناس ، لا أن تتحول إلى حزب سياسي أو قوة سياسية أو موجه لإرادة الجماهير دينياً و/أو دنيوياً.. أقبله كمؤسسة مستقلة فكرياً ومذهبياً تتبنى التدين السني المستقل الذي هو تدين أغلب أغلب أغلب المسلمين المصريين ، بعيداً عن تصريحات استعراض القوة السلفية الصوفية ، لا أقبلها مخترقة من هنا وهناك ، تلعب كرة السياسة ، أو تلعب بنا كرة السياسة..

هذا ما أراه صحيحاً..والله أعلم..

Thursday, October 27, 2011

السؤال الثالث : ماذا نعرف فعلاً عن الأقباط؟

هم شركاؤنا في نفس الوطن ، الذين لا نعرف عنهم أي شيء!

بنفس المنطق الذي كتب عنه كاتب هذه السطور قبل فترة من الزمن ، منطق الصوبة الزجاجية إياه ، بدا وكأن هناك صوبة منصوبة حول المجتمع المسيحي في مصر ، صوبة ليست منصوبة من تلقاء نفسها ، وإنما هناك من اشترك في نصبها بالفعل المباشر أو بالاستفادة ، صوبة تحجب عنا مجتمعاً كاملاً يعتنق أفراده ديناً مختلفاً عما نعتنق نحن.. مجتمع فيه الصالح والطالح والاعتدال والتطرف والليبرالية والتزمت .. مكون من بشر من لحم ودم ، وحتى مع الوضع الخاص للمؤسسة الدينية المسيحية ليس هؤلاء كائنات دينية تمشي على الأرض..

بدأ الأمر - فيما أعي من هذه الدنيا على الأقل - في عهد النظام السابق ، واستمر بعد الثورة ، في البداية حول إعلام النظام السابق المجتمع المسيحي إلى تابو ، لا يجوز نقاشه ولا الاقتراب منه ، معتبراً أن كل الشأن المسيحي في مصر هو شأن ديني ، وكفى بذلك تابوهاً ، فنحن ، وهذا ليس خطأ بالمناسبة ، لا نحب مناقشة الأديان نفسها لما تجره تلك النوعية من المناقشات من سخافات وتطاول هنا وهناك بلا أدنى داع..

ولكن مع الوقت تكتشف أن المسألة ليست مسألة "النظام السابق" فحسب ، محاولة فرد الصوبة ، والعزل التام لجزء لا يتجزأ من هذا البلد عن باقي أهله ، جاء من داخل المجتمع المسيحي نفسه ، من مجموعة من المحرضين والمتطرفين لا تختلف كثيراً عن تلك التي لدينا ، وهي مستفيدة أولاً من ترسيخ فكرة أن "الأقباط أقلية" لدى الأقباط ، ثم أنهم "أقلية مهددة" تعيش في جزيرة يحيط بها "أعداؤها" من جميع الجهات ، لا خلاص لأهلها سوى التجمع حول "الدين" لا الوطن ، بالتالي تصبح كل معاملة محتملة بين هؤلاء و"باقي مصر" معرضة لأن تكون "طائفية" وبامتياز.. كما سبق التناول.. وانعكس ذلك طبعاً عزلة على كافة الأصعدة ما بين سياسة وأدب ورياضة وفن..

بل إن نفس تلك المجموعة من المحرضين وقفت وبشراسة ضد محاولات جاءت من داخل المجتمع المسيحي نفسه لتقديم المسيحيين كمواطنين مصريين عاديين ، كما حدث في واقعتي فيلم "بحب السيما" ومن بعدها "واحد صفر".. "بحب السيما" -مهما كان اتفاقنا أو اختلافنا مع منطقه ومع الشريط السينمائي- الذي جاء كسيرة ذاتية لمؤلفه الذي تناول نشأته في ظل أسرة متشددة ، أحدث صدمة في وقته أولاً لعدم اعتياد أن تكون الشخصية الرئيسية والعائلة التي ينتمي إليها الشخصيات الرئيسة في الفيلم مسيحية (رغم أن هذا حدث في فيلم "يوسف شاهين" الأهم "اسكندرية ليه" دون أن يثير ذلك ضجة) ، ولأن الأسرة التي قدمها الفيلم "محافظة لدرجة التشدد" مما اعتبره هؤلاء "إساءة للأقباط" ، دون فهم أن التشدد موجود في كل دين ، وأن الفيلم نفسه يتناول التشدد في كل دين (حتى أن مؤلف نفس الفيلم تناول نفس القضية من زاوية أخرى في "بالألوان الطبيعية") ، وأن كل مجتمع "فيه وفيه" ، بدليل أن هناك آلاف الأفلام تظهر مسلمين طيبين وأشراراً شرفاءً ومرتشين دون أن يعتبر أي مخلوق ذلك "تشويهاً للإسلام".. وتبقى للسادة المحرضين "دماغهم" وقناعاتهم التي يحاولون فرضها على المسيحيين وغير المسيحيين ، حتى عندما تناول فيلم مثل "واحد صفر"- لي عليه تحفظات فنية كبيرة وعنيفة - مشكلة "الزواج الثاني" للمسيحيين وهي مشكلة شائكة ولها جوانب دينية ، رفع السادة إياهم دعاوى تطالب بمنع عرضه ، في الوقت الذي فتح إعلام المال السياسي - أحد المتربحين من الفكر "الصوبي"- الموضوع للنقاش في فضائياته وصحفه!

من يريدون عزل المسيحيين عن باقي مصر ليسوا إلا مجرد وجه آخر للتطرف ، يقدمون تطرفاً لا يختلف عن ذلك الذي يطالب بإلقاء كل من لا يدين بدينه في البحر.. واستمرار هؤلاء في عزل المسيحيين عن باقي المجتمع المصري وفي فرد الصوبة وجعلها منصوبة يسهم في إشعال هذا البلد جنباً إلى جنب مع التطرف الآخر الذي يطالب بنفيهم من نفس البلد.. ليس فقط في تعميق حساسيات صنعها متطرفون هنا وهناك تؤدي إلى مصيبة هنا وكارثة هناك..كيف يتحول بالله عليكم بلد عبارة عن صوبات زجاجية إلى وطن يسع أهله أجمعين ، من كل جنس وملة ودين؟

Wednesday, October 12, 2011

قانون دور العبادة الموحد : على من نضحك؟

مقدمة: وقت أن كانت لواري الموت على الطرقات ، بسائقيها الذين هم - في الأغلب - من المبرشمين ومتعاطي الصنف ، تحصد أرواح المصريين حصداً ، ودون أن تنظر إلى خانة الديانة في بطاقاتهم ، ظهرت مجموعة من كتبة الأعمدة ، مع مجموعة ممن جعلوا النشاط السياسي سبوبة و"مرمة" وأكل عيش ، ليصرخوا في وجوهنا "القانون ليس الحل ، وإنما الحل يكمن في "الوعي" وتحسين السلوك"..وهم أنفسهم الآن ، الذين يغنون علينا - ودون النظر أيضاً إلى خانة الديانة- بفيلم هابط جديد ينظرون فيه لأن قانون دور العبادة الموحد سيكون الدواء الناجع لكل المشاكل الطائفية التي تعيشها مصر.. كلام مثير للشفقة أكثر منه للضحك..


أي قانون ذلك بحق الله سيؤتي ثماره وسيحل المشاكل كلها ، لا سحر ولا شعوذة ، في وقت أصبح لدينا فيه ، على اختلاف دياناتنا ، منذ ما يسمى بـ"الحراك السياسي" في منتصف العقد الماضي عداء لكل ما هو قانون ، واستخفاف به ، حتى وصل الأمر إلى أننا نعيش الآن ، ومنذ ما قبل الثورة كي أكون منصفاً وغير مجحف- أزهى هصور ما يسمى بـ "ثقب البالونة"-ذلك المصطلح الذي تحدث عنه "عمرو أديب" يوماً.. مصطلح يعني باختصار القدرة الفائقة والهائلة على تدمير أي قانون وإفراغه من محتواه بالتحايل والفهلوة وتفتيح المخ ، ليس فقط لتحقيق المصلحة ، بل كرهاً لفكرة القانون نفسها واعتبارها تقييداً له ولحركته ولمصالحه ، وخوفاً من أن يطبق عليه وعلى غيره .. ولهذا السبب ترى بعد كل مشكل طائفي عدداً من متطرفي الجانبين يتحدثون عن حتمية تطبيق القانون -القانون عموماً وليس قانون "دور العبادة..الخ" ، رغم أن القانون لو طبق بحذافيره لن يعدم كل منهم وسيلة للتحايل عليه وحشد الناس ضده في الميديا وغير الميديا.. باب الأذى واسع؟

حقيقة كهذه لا تقنع "المستنشطين" ولا "الكتبة" ، الذين يتمادون في استخفافهم الفاضح بالعقل بالترويج لفرضية أن السماح ببناء دور العبادة بلا قيود باستثناء قيود القانون المذكور ستحتوي بنسبة كبيرة التوتر الطائفي الذي تشهده بلادنا .. هذا على أساس أنه طبعاً من الممكن أن تحل مشكلاً دون أن تحاول علاج أسبابه ، ودون أن تعرف أسبابها وتحددها أساساً!

كفانا استعباطاً.. هناك تطرف على الجانبين ، أكررها بدل المرة ألف ، ليس إمساكاً للعصا من المنتصف ولكن إقراراً لواقع نستدل بما يحدث من حولنا على وجوده ، والمؤسستان الدينيتان ، سواء الأزهر أو الكنيسة لا تقومان بأي دور كان في مقاومته ..

الأزهر دخل عالم السياسة ، شئنا أم أبينا ، وحبايبنا الحلوين من الكتاب إياهم يهللون لعودة "دور الأزهر" ، دون أن نرى في مقالاتهم تلك إشارة واضحة ومحددة لماهية هذا الدور بعيداً عن "حماية الاعتدال والوسطية و..و.." (يعني بيكلمونا نص ساعة دش دش على حاجة مش عارفينها وهمة نفسهم مش عارفينها..هيس هيس حتبقى كويس) ، بشكل يجعل كل من لم يكن يشك في أن هؤلاء الكتاب يريدون أن يلعب الأزهر سياسة يتحول إلى دبوس يشك في كل ما يقابله.. لا أن يلعب (="الأزهر") دوراً دينياً دعوياً ثقافياً في مواجهة التطرف أيا كان اتجاهه ، سلفياً متشدداً أو صوفياً متشدداً أو شيعياً متشدداً ..أو أن يطلب شيخه وعلماؤه الأجلاء من قيادات تلك الفرق ألا يمارسوا السياسة من تحت عباءة الفرقة ، إذا كنا نمارس عباداتنا من تحت عباءة الدين لا الفرقة ، فكيف نمارس الدنيا من عباءة الفرقة؟ لكن ما حدث هو أن المؤسسة العريقة دخلت ملعب السياسة ، بشكل أو بآخر ، وأصحابنا إياهم (الذين يدعون كذباً أنهم أنصار الدولة المدنية) يهللون من بعد "الوثيقة" لعودة الأزهر إلى دوره ، أو بمعنى أصح لسقوطه في فخ أن يكون قيادة موجهة دينياً وسياسياً للمسلمين في مصر ، لعبة حاول النظام السابق لعبها ، ويحاول المال السياسي لعبها الآن بشكل أكثر سفالة ، بما أنه يهمه أنه إذا حكم مصر - لا قدر الله - أن يحولها إلى ما يشبه لبنان ، دولة يحكمها عدد من الأشخاص لا يتجاوز عددهم فريق كرة قدم ، نصفهم من رجال الدين ، ما بين مفتي للسنة ومرجعية للشيعة وبطريرك وشخصيات سياسية لها "دلال" ديني.. والعبي يا ألعاب..

أما الكنيسة فهي الأخرى لا تلعب دورها المنوط بها في إيقاف التطرف المقابل في دائرتها ، ولكي لا ندفن رءوسنا في الرمال أكثر هناك تطرف على الجانب المسيحي لم يعد من العقل إنكاره ، وهناك متطرفون بعضهم رجال دين وبعضهم ساسة ورجال أعمال يتربحون باسم الدين ، نجحوا في أن يصلوا لشرائح واسعة من المسيحيين يعيشون جنباً إلى جنب مع مسلمين في أماكن لم تصلها من قبل دولة ولا تنمية ولا قانون، يحولونهم كما يحول المتطرفون في أي دين ، إلى قطع شطرنج يحركونها كما يريدون ، والأسوأ هو حرص هؤلاء على وضع الوسط المسيحي كله في صوبة زجاجية كبيرة تفصله عن باقي الوطن ، كما سأعرض في تدوينة قادمة بإذن الله.. وللأسف ليست هي بمنأى عن لعبة التوازنات سالفة الذكر .. التي بدأت في العهد المباركي وتؤكد الشواهد استمرارها على الجانبين المسلم والمسيحي على حد سواء.. في يد قوة تبحث عن شرعية الدين لحماية المال ، خلفاً لقوة بحثت عن شرعية الدين لحماية الكرسي..

ما دام التشدد الفكري كما هو ، ما هي جدوى القانون وكل قانون؟ ما دامت ثقافة القانون غائبة ، ما هي جدوى القانون وأي قانون؟ وما دمت سترفض حكم القانون إذا ما صب في غير مصلحتك ، فما هي جدوى القانون وأي قانون؟

بدون زعل ، أنصح هؤلاء المستنشطين والكتاب أن يلعبوا في مكان ، ومنطقة بعيدين عن المكان والمنطقة الملتهبة التي تزداد التهاباً واشتعالاً واحتقاناً لأن البعض يرى المشكلة صغيرة فقرر أن يتركها حتى تكبر.. دمتم بخير وربنا يستر..
* بالمناسبة ، التشريع اقتصر على "بناء دور العبادة" فقط ، ولم يتطرق إلى تجريم استغلالها أو استغلال منابرها في الدعاية السياسية ، فكروا فيها..