Wednesday, May 30, 2012

العدالة الاجتماعية : احتكار اليسار ، وطناش الإسلاميين

قبل الكلام: لنتفق من البداية على أن ما يعاني منه التيار الديني فكرياً يعاني منه آخرون في هذا المجتمع يدعون دائماً أنهم أكثر اعتدالاً واستنارة.. وأن ما تسمعه من بعض المتشددين دينياً ستسمعه بالتأكيد من آخرين ولو بشكل مختلف أكثر "تزويقاً".. لكن هذه المدونة تبقى "محاولة للفهم لا أكثر" ، والبحث عن تفسير لأشياء كثيرة تحدث حولنا سواء من التيار الديني أو من غيره..

ولنتفق أيضاً أنه لكل طرف في المعادلة السياسية في مصر على الأقل "مُحتَكَراتُه" ، التيارات الدينية تحتكر الحديث باسم الدين ، اليسار والناصريون يحتكرون الحديث باسم الفقراء ، حركات كـ "6 أبريل" وغيرها تحتكر الحديث باسم الثورة ، وكان قبل هؤلاء الحزبوطني يحتكر الحديث باسم الوطن بالوطن بمن فيه.. وعن نفسي أجد صعوبة في فهم تلك الاحتكارات ، بما أن عقلي المحدود ، مقارنةً طبعاً بالمتشنجين من أنصار كل فريق أو مرشح رئاسي فشل كان أو استمر ، يجد "صعوبات" في تصديق أن يحتكر شخص ما شيئاً "لا" يملكه!

أستغرب - ولعل المشكلة فيّ - أن يحتكر اليسار مثلاً الحديث عن العدالة الاجتماعية ، والتي تعد ، أو هكذا يفترض ، أحد أهم مطالب الثورة ، أياً كانت معاني ذلك المصطلح وهي كثيرة ، حتى لو سلمنا أن اليسار لطالما اعتمد على مخاطبة الطبقات العاملة "البروليتاريا" والمهمشة والتي تحصل على نصيب من الدخل لا يتناسب مع مشاركتها في صناعته ، وأن اليسار يبدو "أكثر اهتماماً" بتلك الطبقات من قوى المال - سياسياً كان أو لم يكن - أو الطبقات المنتفعة بشكل مباشر من قوى المال أو حتى الطبقات الوسطى ، فإنه كما أنه ليس من حق الأغنياء احتكار الثروة ، ليس من حق اليسار أو غيره احتكار صناع الثروة ، وأن خطاباً يدغدغ العواطف قد لا يكون كافياً لتحقيق مصالح الطبقات الفقيرة والضعيفة والمهمشة ، مثله في ذلك مثل الخطاب النخبوي العلوائي أو الرأسمالي المتعالي..

بمعنى أوضح ، حين نتحدث عن "عدالة اجتماعية" لا نتحدث عن إجابة صحيحة ، بل عن حل أمثل على الكل أن يقدم تصوراته له وأن يهتم به ، خصوصاً من يهمهم أن يصلوا إلى السلطة ويطبقوا "تصوراتهم" علينا..

الغائب الحاضر في مسألة العدالة الاجتماعية هم الإسلاميون .. صدق أو لا تصدق..

الإسلاميون لا ينتمون لمجموعة اجتماعية أو طبقية بعينها ، حتى ونحن نتحدث عن "الإسلاميين الجدد" ، بحيث يمكن تصنيفهم كطبقة عاملة أو طبقة مثقفة أو طبقة رأسمالية مالكة للثروة أو ... أو... أو... ولأنهم يتحدثون بالدين وباسم الدين ، الشيء المشترك بيننا جميعاً ، بمثله ومثالياته ، التي تستوعب كل المجتمع ، بمن فيهم غير المسلمين ، فمن الطبيعي أن يكون هناك مجال حتى لتداول المصطلح وتقديم "حلول ممكنة" له..

لكن ما يفاجئك أمران : الأول أن تلك الفكرة لا تشغل أي أولوية ، أو لا تشغل أولوية كبيرة لدى هؤلاء ، كل الكلام موجه عن الحكم وتطبيق الشريعة وتطبيق الحدود فقط ، أما تقديم حلول للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية فلا يشغلهم كثيراً ، والثاني أن كل الكلام نصوص ، وليس تفسيراً لنصوص ، أو محاولةً لتطبيق ما يمكن تطبيقه منها.. رغم أن "ابن تيمية" رحمه الله اشترط في تطبيق الحدود أمران أحدهما "إمكانية تطبيقها عملياً" والثاني "حساب المكاسب والخسائر الناتجة عن تطبيقها بحذافيرها"..

لكل مجتمع ظروفه ، مستواه التعليمي والثقافي ، حالته الاقتصادية ، وبالتال يختلف فهم كل مجتمع للدين ، وتفسيرهم لنصوصه ، وبالتالي ما يريد أن يعرفه المجتمع ليس ما ينبغي أن يكون ، أي ما في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، قدر ما في كيفية تحقيقه على أرض الواقع في ظل الظروف الحالية التي نعيشها جميعاً..

مرة أخرى .. لماذا لا يهتم الإسلاميون كثيراً بالعدالة الاجتماعية؟ ولماذا يكتفون فقط بتسميع الآيات الكريمة والأحاديث النبوية دون تقديم حلول عملية قابلة للتحقيق؟ ولماذا يسعون لحكم مجتمع لا يهتمون به بشكل جاد؟

هل لديكم إجابة؟

Monday, May 14, 2012

والآن .. قناة تليفزيونية من المنتقبات للمنتقبات.. فقط

من الجيد جداً أن أي فصيل يدعي أنه يتحدث باسم الإسلام أن يكون لديه مبدأ واضح لا يحيد عليه ، يطبقه فيكون متصالحاً مع نفسه ، لا أن نجده يتحايل عليه ، على غرار ما كانت قنوات دينية تفعل من قبل ، حين تحايلت على تحريم الموسيقى (بما أنها ترى أن الموسيقى حرام) بالموسيقى البشرية (بما عليها من شبهات إذا طبقنا الفكر السلفي بحذافيره) ، وحين تحايلت على عدم ظهور المذيعات على شاشتها باعتبار أن صوت المرأة عورة (طبقاً للمدرسة) وإن كانت تسمح بظهور صوتها كمتصلة ..

ومن الجيد جداً جداً ، قبل أن ينهال شخص أو تنهال مجموعة أشخاص على كاتب هذه السطور بالسباب بسبب كتابتي عن هذا الخبر ، أو بعبارات من عينة (انتم ما بيعجبكمش إلا قنوات العري والانحلال ، وبتقف ضد القنوات الملتزمة اللي بتقدم الإسلام الحقيقي ، .....مؤامرة على الإسلام ....؟؟؟$#@$@#$.. الخ).. أن يتطوع هذا الشخص ليرد على كل من قرأوا هذا الخبر واستغربوه واستغربوا أن تعمل المنتقبة ، مع كل احترامي للمنتقبات ، كمذيعة تليفزيونية.. وإن كان هناك ما سيعده ذلك الشخص - المحترم - نوعاً من أنواع سوء التفاهم ، لو كان ذلك الشخص ممن لا يجيدون الرد باستخدام الشتائم ، فعليه أولاً أن يبادر بتصحيح سوء الفهم لدينا ، يمكن نكون ما احناش شايفين كويس!

وسيكون عليه ، أيضاً ، أن يحضر إجابات يقبلها العقل عن تلك التساؤلات التي يسألها رجل الشارع العادي ، الذي يتقرب بعض مدقعي الحماقة إلى الله - من وجهة نظرهم - بخسارته والاستخفاف به :

1-تكشف المرأة المنتقبة عن وجهها حين يطلب "عسكري المرور" التحقق من شخصيتها ، لكي يقارن وجهها بالصورة الموجودة في البطاقة ، بما أنه من المستحيل عملياً تخيل بطاقة شخصية لأي شخص بلا صورة ، أو نضع وردة أو "أفاتار" مكانها بما أننا في الحياة الواقعية ولسنا في شات.. وبما أننا لا نرى وجهها ، فمن أين لنا أن نعرف إن كانت تلك المذيعة "المنتقبة" سيدة أم لا؟

2-مع تسليمنا بأن النقاب رأي فقهي له أدلته وله أدلة يرد عليه بها داخل المدرسة السلفية وخارجها ، باعتبار أنها ليست المدرسة الإسلامية الوحيدة ، وأن هناك من اخترنه وهناك من اخترن غيره ، اختارت المنتقبة أن تنتقب كي لا يراها الناس ، فكيف تعمل كمذيعة ، علماً بأن عملها يفترض أن يسمع فيه الناس صوتها ، وهو طبقاً لنفس المدرسة "عورة"؟ عطفاً على أن عملها كمذيعة "قد" يتناقض ونقابها.. بما أن هناك من سيشاهد القناة بالتأكيد ومن الممكن أن يشاهد تلك المذيعة ولو عرضاً بالنقاب؟ بالتأكيد هناك مهن كثيرة شاهدت فيها عن نفسي نماذج منقبة ، لكن تلك المهن ليست مهنة المذيعة التي تتناقض مع ما اختارته تلك المرأة لنفسها وفقاً لما تراه صواباً..

3- ألن تضاعف قناة كهذه من معاناة المنتقبات وتضعهن في موضع السخرية؟ سيقول البعض: "إيه العفريتة اللي جايبينهالنا؟" أو : "طالما مغطية وشها جايبانا نشوفها ليه؟".. وستتواصل السخرية والإهانات أكثر وأكثر وستتضاعف العزلة أكثر وأكثر ، لتصبح عزلة من المجتمع الذي يعشن فيه ، رغم أنهن عزلن أنفسهن عنه؟

4-بل وماذا سيكون رد هؤلاء مثلاً على كثيرين ، ليسوا ليبراليين بالضرورة ، يقولون ببساطة : "طالما هي مخبية وشها ، نازلة الشارع ليه؟ وبتشتغل مع رجالة ليه؟ ، ومحتكة بمجتمع ترفض مواجهته وتحتقره ليه؟".. وبما أن أنصار النقاب ، وأصحاب القناة يريدون إخراج المنتقبات من عزلتهن ، فهل ستكون قناة كهذه رداً على هذا التساؤل؟ .. عن نفسي .. أشك وبقوة..

إذا كان من مستهزئ بالنقاب ، فلن يكونوا أصحاب تلك التساؤلات وتساؤلات أعنف ، ولا كاتب هذه السطور ، بل من يصمم على إحراج المنتقبات بهذا الشكل بقناة كهذه.. مضافاً إلى قائمة طويلة من الإسلاميين يحرجون الإسلام بتصرفاتهم وتحالفاتهم وقنواتهم..

اللهم احفظ دين الإسلام من الإسلاميين..

Thursday, May 10, 2012

في المشروع "الإسلامي" : أزمة لحن ، لا أزمة توزيع

"لماذا لا يوجد بين الإسلاميين شاعر مثل عبد الرحمن الأبنودى أو أحمد فؤاد نجم.. لماذا لا يوجد بين الإسلاميين امرأة مثل نوال السعداوى؟"..

استغرب كيف شئت ، لكن الأمانة تقتضي أن أقول لك أن هذه التساؤلات ليست من عندياتي ، ولكنها من داعية سلفي شهير هو الشيخ "عبد السلام البسيوني".. تساؤلات من حقك وحقي أن نسألها ولو من باب العلم بالشيء.. ربما لأنها ستقودنا إلى تساؤلات أخطر ، مع خطورة تلك التساؤلات في ذاتها..

هناك في بلادنا مشاريع كثيرة ما بين الليبرالي واليساري والناصري والاشتراكي وبالتأكيد المشروع "الإسلامي" ، نسبةً إلى "الإسلاميين" أكثر منه إلى الإسلام كدين وكمنهج بناء مجتمع عن طريق الفرد .. هذا المشروع الذي تعرضنا لخدعة كبيرة جداً من الكتاب الأتاتورك وكتبة صحف المال السياسي عندما حاول هؤلاء قصره في عقولنا على جماعات الإسلام السياسي ، وهذا هراء مركز ، وإلا كيف نجحت تيارات مذهبية عدة كالشيعة في البحرين والكويت ولبنان والعراق والصوفيين والسلفيين في مصر في أن تكون جزءاً من "المشروع" وتتحدث باسمه؟ كيف نجح السلفيون في مصر تحديداً في أن يكون لهم حزب سياسي كبير في فترة زمنية قصيرة للغاية رغم أن مواقف معظم قياداتهم باستثناء مدرسة الإسكندرية كان يعتبر أن من السياسة ترك السياسة ، ليعودوا - إذ فجأة - ليقدموا أنفسهم على أنهم حملة لواء المشروع؟

لنتفق مبدئياً أن اللحن واحد ، فكرة وجود مشروع و"ثوابته" التراثية منها دولة خلافة إسلامية كبرى عابرة للدول وتطبيق للشريعة و..و... هي ثابتة بين الكل ، سواء تيارات الإسلام السياسي كالإخوان والجماعة الإسلامية أو التيارات المذهبية كالتيار الصوفي والمدارس السلفية المصرية جمعاء ، سواء من مارس منها السياسة تحت لواء أحزاب سياسية - كـ"النور" و "الأصالة" وغيرهما- أو لم يمارس (حتى الآن)..وأن اللحن "قديم" وليس وليد فترة السبعينيات التي شهدت فترة ظهور شخصيات محسوبة على "الإسلاميين" في الجامعات يتصدر معظمها العمل السياسي "الإسلامي" حالياً وبينهم مرشحون للرئاسة وأعضاء في البرلمان.. وكل الاختلافات بين هؤلاء هو في التوزيع .. لا أكثر..

المشروع إذن ليس هو الدين ، هو مجرد اجتهاد يحتمل الصواب والخطأ لأناس يرون أن مهمة الدين أن يحكم أولاً وبعدها من الممكن أن نفكر في إصلاح الدولة ثم الفرد ، عملاً بعبارة سبق نقدها وانتقادها "الناس على دين ملوكهم" ، ومع تغير الظروف وضخامة الدعاية كل في تياره تم تسكين فكرة المشروع في عقولنا على أنه جزء لا يتجزأ من الدين (1)،عن نفسي أرى أنه ليس من مهمة الدين أن يحكم ولكن أن يصلح (بكسر اللام) الأفراد ليكون لدينا مجتمع صالح ، وأصحاب "المشروع" أو نظرية المشروع رأوا في الدين وما له من أهمية في حياة الناس فرصة لحكم الناس دينياً و/أو سياسياً.. بالتالي فإن المشروع - لا الدين - يجب أن يعرض على العقل ويحاسب شأنه شأن كل المشاريع السياسية الأخرى..

الداعية "السلفي" تساءل ، هو وغيره ، عن غياب الإسلاميين عن الأدب ، أو بمعنى أصح عن عدم تقديم الإسلاميين ليس لمدرسة أدبية متكاملة بل عن غيابهم بالكامل عن الساحة الأدبية والفنية.. ومن حق غيرهما أن يسأل عما قدمه هؤلاء ليس للآداب والفنون والإعلام فقط بل للاقتصاد والعلوم في مجتمعاتهم وتحديداً في مصر.. ما هي الإسهامة الأبرز التي قدمها الإسلاميون للحياة في مصر بشكل عام؟ تقريباً ولا حاجة..

أحد مشاكل الإسلاميين عموماً ، أنهم ينظرون لمجتمعهم المحيط من أعلى لأسقل ، هم يرون أنفسهم أكثر طهراً ونقاءً وتديناً وأقرب لله من الغير ، وبالتالي يتعامل هؤلاء ، وبصراحة = كغيرهم ، مع الناس كناصحين ، مرشدين ، فاهمين ، ومبعوثين لانتشال الناس من الردغة التي يعيشون فيها إلى مستواهم هم ، وبالتالي صعب أن يعمل هؤلاء مع من يرون أنهم "دونهم" في أي مجال كان.. وأن يبتعد هؤلاء تماماً عن باقي المجتمع الذي يعيش في الضياع في الضياع من وجهة نظرهم مع الاعتذار لـ"هوبة".. وألا يشاركوا في أي أنشطة جماهيرية أو أي نشاط يهتم به الناس وألا يتواجدوا فيه بل ويعملون على التقليل من أهميته قدر المستطاع حتى ولو بسلاح الفتوى.. وقد يضيف البعض إلى هذا التفسير الموروث الصوفي المتغلغل لدينا عن التقليل بأي شكل من الأشكال من قيمة الحياة الدنيا وعدم الالتفات لها ، موروث تحول إلى واقع في وجدان أجيال كثيرة من المصريين بمن فيهم من قرروا اعتناق أيديولوجيات لا تتماشى مع الصوفية الحركية في مصر ، كالسلفية والسلفية الجهادية.. بالتالي هم يفكرون على طريقة تنسب لـ"رابعة العدوية" في التصومع والابتعاد عن الناس ، زادوا عليها أن كانت لهم تجمعاتهم وصوباتهم الزجاجية التي تميزهم عن باقي المجتمع الوحش.. صوبات لا يشترط أن تعني مكاناً أو حياً بعينه ، لكن حتى في تعاملهم مع عامة الناس الوحشين اللي مش عارفين أي حاجة..

وكعادة كل من يعرف أكثر ، قرر هؤلاء وهم يقدمون أوراق مشروعهم للناس ، أن يعملوا على أسلمة كل شيء بما فيها ما لم ينزل فيه نص ، اقتصاد إسلامي ، أدب إسلامي ، فن إسلامي ، كمقدمة للخلافة الإسلامية التي رأوا بوادرها أولاً في إيران ثم في تركيا (رغم أن النموذجين لا يعكسان أياً من قيم الإسلام بالمرة(2)).. وهذا على العكس من النسخ "الوحشة" للاقتصاد والأدب والفنون التي يعتقدون أنها سـ"تنصلح" من تلقاء نفسها دون المشاركة فيها بشكل إيجابي..

كلهم ، مع أني لا أحب عادة اللجوء للتعميم ، يرون أن الحكم يأتي أولاً وبعده كل شيء على مهله.. عندما يبدأ التمكين يبدأ كل شيء ، رغم أن التمكين يفترض أن يسبقه مشاركة وحضور ، عن اقتناع ، لا من باب "حسنة وأنا سيدك" ، وهو ما لم يفعلوه ولا نية لديهم لفعله..

إذن ما هي النتيجة؟ مشروع بعيد كل البعد عن اهتمامات الناس ، يتحدث بلغة ليست لغتهم ، ويتبنى هموماً ليست همومهم ، لا يعنى بهم كبشر ، ويستخف بأولوياتهم ، يهرب إلى الماضي وقصص المنابر تارة ، وإلى القضية الفلسطينية والمسجد الأقصى تارة ، ويدغدغ عواطفهم بعبارات معسولة عن الماضي التليد ودولة الخلافة والحاكم العادل و..و..و... أمر طبيعي لأن المشروع لم يقم على رعايته أشخاص عاديين من عامة الناس يشعرون بما يشعر به الناس على اختلاف مستوياتهم الثقافية والاجتماعية والمعيشية ، بل لأنه مشروع فوقي جاء ممن يرون أنفسهم أفضل من باقي الذباب الذي يشاركهم المعيشة في نفس البلد ويقبلون بهم فقط من باب "فشقة بيك يا رمضان"..

إذن المشروع بحالته ، بطريقة تفكير أصحابه وتنظيرهم له ، هو العجز بعينه ، ومن المحزن والمخزي أن نقرن شيئاً فاشلاً بهذا الشكل بالإسلام الذي هو أكبر من أن يكون برنامج حزب أو جماعة أو طريقة ، ومن أن يكون المقشة السحرية لـ"أردوغان" أو "نجاد" أو "طالبان" أو أقرانهم هنا أو هناك.. لهذا السبب لم أرشح أي مرشح إسلامي ، ونادم على تصويتي لـ"الوسط" في الانتخابات البرلمانية، لا فرق عندي الآن بين "الوسط" و "الحرية والعدالة" و"النور" و"الأصالة" ، ولا بين "أبو إسماعيل" و"أبو الفتوح" و "مرسي" و"العوا".. ولهذا السبب أيضاً تبتعد شرائح كبيرة من الناس عن السياسة لأن الإسلاميين ليسوا الوحيدين الذين يفكرون بتلك الطريقة ، لكل تمكينه ، و"أشياؤه" التي يريد أن يفرضها علينا.. تعددت التوزيعات ، واللحن واحد..وياريته كان عدل..
(1) كما تم ترسيخ معتقد أن للأزهر دور ما ويجب أن يعود إليه.. اللي يعرف الدور دة بوضوح يقول لي..
(2) كلا النموذجين في رأيي عنصري يحاول إعادة أمجاده القومية باسم الدين ، رغم أن كل منهما علاقته التاريخية بمحيطه الجغرافي - اللي هو احنا - أسوأ من الآخر.. سواء مذابح الصفويين أو فترة الحكم العثماني التي أضاءت "الآستانة" وأظلمت العالم الإسلامي بأكمله..
تحديث: الفقرة قبل الأخيرة وبعض التعديلات في الأخيرة..

Thursday, May 3, 2012

زاويتان : المادة الثانية من الدستور

أسعد الله أوقاتكم..

بحد تعبير زميل وأخ كبير في أحد المنتديات ، وقت أن كانت حياتي على الإنترنت قاصرة عليها قبل أن أدخل عالم التدوين قبل ست سنوات ، أصبحنا أساتذة في علم "اللوع" واللف والدوران ، ولا نؤمن حتى في أبسط تعاملاتنا بأن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين.. ولا نتوقف عن ذلك اللوع مهما كلف ، حتى لو كانت التكلفة دماً وإصابات واحتقاناً سيحتاج لأعمار لكي يزول ، مهما احترفنا استعمال الكلام "المزوق" وعلب المهدئات ولغة "التسنيج"..

منذ 11 فبراير 2011 والكل يدور حول نفسه كالنحلة ، لا يتوقف ، ولا يعتقد أنه قد أصابه أي صداع ، عدوا معي الأشياء التي حدثت منذ ذلك التاريخ ، من "محمد محمود" إلى "مجلس الوزراء" ونهايةً بأحداث العباسية ، استقطاب بين الإسلام السياسي والمال السياسي أكثر ما هو استقطاب بين إسلاميين وليبراليين ، كل طرف يتمادى في التذاكي على الآخر وإخفاء الكروت .. أحداث "محمد محمود" دارت حول الدستور ، بعيداً عما يقال عن المجلس الرئاسي المدني الذي لم يتفق عليه أحد في الميدان ولا على ممثليه ، وأحداث "العباسية" دارت حول شخص الرئيس القادم ، أكثر منها حول لجنة ومادة وبتاع ..

مدنية أم دينية؟ إسلامية أم عالمانية؟ رئاسية أم برلمانية؟ دستور أم انتخابات؟ لف ودوران يذكرنا بمعضلة البيضة والدجاجة..

على المستوى الشخصي تساءلت كمواطن من عامة الناس عما يريد هؤلاء وعما يتفق عليه وعن أشياء أخرى ، فلم أتلقَ أي إجابة ، ويبدو أن هذا الطناش هو ما سيجنيه كل شخص يحاول أن يعرف آخر الفيلم الذي نعيشه.. ولا تفهم ، ولا أفهم ، ما إذا كان ذلك الطناش فعلاً طناش اللف والدوران ، أم طناش استعلاء واستنكار لأن يسأل أي شخص هكذا أسئلة..

قلنا نجيب من الآخر..

حتماً سنصل إلى النقطة الخلافية ، حتماً سنصل إلى قطعة الورق التي أريقت من أجلها تلك الدماء الزكية في كل جانب ، حتماً سنصل إلى الدستور بنقاطه الخلافية التي لا يريد أطراف الاستقطاب مناقشتها بوضوح وفي العلن وبشجاعة بعيداً عن التذاكي واللف والدوران الذي صار مع الوقت أمراً مثيراً للغضب أكثر منه للشفقة..اختار العبد لله الوصول لأبعد نقطة ، أو ما يعتقده كذلك ، من الخلاف داخل الدستور نفسه .. المادة الثانية من الدستور ما بين نعم ولا.. وبالله عليكم ، لا أريد أن أسمع كلاماً من عينة "ما كل القوى الوطنية اتفقت على المادة التانية" ، "المادة التانية فوق دستورية والكل عايزها".. هناك من يريد إلغاء المادة ، وهناك من يريد تطبيقها لأقصى مدى .. ومن دفن الرءوس في الرمال وخداع الذات واشتغالها إنكار ذلك.. فقط ما نراه هو تذاكي و"شغل قمار".. لا أكثر ولا أقل .. وفي النهاية سيصل الجميع إلى تلك النقطة بعد أن تكون قد أزهقت أرواح أكثر ، وحدثت مهازل أكبر ، وفقد كل الناس أي "نِفس" لحوار بلا شجار..

وبما أنه لا أحد يريد أن يجيب عن تساؤلاتي ، كمواطن من عامة الشعب ، قررت تكرار تجربة قمت بها في الثاني والعشرين من يوليو الماضي ، بل سأمضي خطوة أبعد ، بأن أكتب في تدوينتين منفصلتين ما يريده كل فريق ووجهة نظره بكل وضوح ، من يرفض المادة الثانية من الدستور شكلاً وموضوعاً ، ومن يتمسك بها لآخر مدى ، وحرصت على أن أكون أكثر تشدداً على الطرفين ما استطعت سبيلاً إلى ذلك..تاركاً الأمر لكم والكرة في ملعبكم ، ربما ترون فريقاً على حق ، وربما ترون أن الاثنين على حق ، وربما ترون أن كليهما جانب الحق.. ولي مع الرأيين نقاط اتفاق ونقاط اختلاف..

واستعنا على الشقا بالله
* طبقاً لنظام الترتيب في "بلوجر" عملت التدوينات التلاتة معكوسة في الترتيب ، أجدد واحدة في التلاتة الآخر "المؤيدين"، بعديها اللي فوقيها "الرافضين" بعديها دي "المقدمة".. حكم القوي..
تحديث 4/5: بعض التعديلات في التدوينتين المبينتين بأسفل..

رافضو المادة الثانية : لماذا نبقي عليها؟

يفترض أننا حين نتكلم عن دولة مدنية ، أن تكون المرجعية فيها هي الشيء المشترك الوحيد الذي يجمع أبنائه أجمعين ، ألا وهي المواطنة ، انتماؤهم لهذا البلد أياً كان تباينهم في المستوى الثقافي والاجتماعي والاقتصادي وفي الدين الذي يعتنقوه.. وبالتالي لا يستقيم ، ونحن نتحدث عن المواطنة ، أن نغلب فئة على فئة ، أو دين على دين .. سبب كافٍ لجعل المادة الثانية من الدستور بأي صيغة كانت بلا محل من الإعراب..

قد يقابل هذا الكلام باستياء شديد للغاية ، سيقول البعض أن المادة الثانية تحدد هوية الدولة ، وأن الدولة إسلامية بما أن أغلبية أهلها مسلمين ، الدولة بهذا المعنى إسلامية فعلاً والمسلمون أغلبية ، هل نحتاج لمادة في الدستور تذكرنا بحقيقة كهذه؟.. مصر لمن لم يعِ بعد مصرية ، خليط ما بين هويات وثقافات متعددة صنعت النسيج المصري ، أكبر من أن نختزل هويتها في مرحلة بعينها أو دين بعينه..

سيقول البعض أن المسلمين أغلبية في مصر -وهذا صحيح – ومن الطبيعي أن يحترم حق الأغلبية في أن تفرض شريعتها كأساس للتشريع ، لكن هل سيكون المسلمون في أي بلد سعداء وهم أقلية وتفرض عليهم قوانين مستقاة من دين أصحاب الأغلبية؟ لماذا لا نضع أنفسنا محل الغير وفي مكانهم علماً بأنه في بلدان أخرى يعد المسلمون أقلية مقارنةً بأصحاب ديانات أخرى ، سواء في أوروبا أو أفريقيا أو غيرها؟

وسيقول البعض بأن القائلين بمدنية الدولة يرفضون أن يحكم الإسلام ، ويمكن الرد عليه بحقيقة واحدة ، باستثناء بعض الثوابت ، لا يوجد لدينا إسلام واحد في العالم الإسلامي ، أي إسلام إذن يريد هؤلاء أن يحكم مصر : الإسلام السلفي أم الإسلام الصوفي أم الإسلام الحركي أم الإسلام الجهادي أم الإسلام الأزهري أم الإسلام الشيعي أم الإسلام الطالباني أم.. أم.. أم...؟ - هذا طبعاً ناهيك عن تمسك كل أصحاب فهمهم بأنه الفهم الوحيد الحصري للدين..

حتى لو حكمنا الإسلام الأزهري المعتدل الوسطي ، وقصدناه في المادة الثانية من الدستور ، ألم يقل عثمان بن عفان رضي الله عنه : إن الله لينزع بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن؟الدين كما نراه ينظم العلاقة بين العبد وربه ، والعبد والعبد ، في إطار أخلاقي ، مبني على الوازع الداخلي ممثلاً في الخوف من الله عز وجل ، والطمع في مغفرته ورحمته ، لكن الجانب الأخلاقي وحده لا يكفي في تنظيم السلوك بين المواطن والمواطن حتى ولو كانا مؤمنين بنفس الدين ، بمعنى أصح : بطريقة أو بأخرى سنحتاج إلى القانون ، وسنحتاج إلى قانون مبني على الشيء المشترك الوحيد بين أبناء الوطن الواحد وهو المواطنة ، وعلى أساس قانون مدني عالماني يمكن تفادي مشاكل وتضادات يمكن أن تحدث نتيجة مسائل خلافية بين الأديان داخل أي دولة.. أكثر بكثير من الاستناد إلى الشريعة ، أي شريعة لأي دين ، في أن تكون أساساً لسن القوانين.. خصوصاً في مجتمعات تقوم بتديين كل شيء ، وتدخل تحت مظلة الدين أشياءً ليست من الدين.. بل هي من مستجدات الدنيا التي لم يرد فيها نص أصلاً..

وحتى ولو كان الدستور موضوعاً على أساس الشريعة الإسلامية دون غيرها ، كما يطالب بذلك سلفيون ، هل يمنع ذلك فساد التطبيق بما أن من يطبقه بشر؟ الداعية السلفي "عبد المنعم الشحات" يجيب بـ"لا"..

سيتكلم البعض عن الحدود وعن كونها جزءاً من الدين ، وأنها يجب أن تكون جزءاً من القانون ، كيف سيتم تطبيق الحدود الآن؟ وعلى من؟ هل لدينا في الدولة جهاز إثباتي قضائي قوي يمكن للقاضي بمجمله أن يعرف أن سيناً من الناس سرق قبل أن تقطع يده ، هذا لو كنا سنطبق الحدود بحذافيرها؟

سيتحدث البعض عن “مقاصد الشريعة الإسلامية” في صيغة مقترحة للمادة ، مقاصد الشريعة الإسلامية هي العدل والحرية والكفاية والأمن على النفس والمال والعرض لأي شخص يعيش في ديار الإسلام ، أو في غيرها ، هذه مقاصد تتماشى مع قواعد الأخلاق ، ولا يمكن لأي قانون عادل أن يتجاهلها ، فلماذا إذن وضعها تحت لافتة دينية؟

وسيصر البعض على أن المادة الثانية صمام أمان للوحدة الوطنية ، رغم أن هذا الكلام ثبت خطؤه بالدليل العملي وبالتجارب التي أثبتت أن التعصب يزيد في كل يوم عن اليوم السابق عليه ، ولم تمنع "الكشح" ولا "القديسين" ولا غيرها، ويبدو أن ذلك البعض لا يزال يعيش في ذكريات الماضي حين كان المسلمون فاتحين لديار غير إسلامية ، وكان أهل تلك الديار "أهل ذمة" ، وكانت الجزية تفرض عليهم ، وكانت كل الدول الإسلامية مجمعة في خلافة يحكمها الخليفة في "بغداد" أو "دمشق" أو أياً كان ، أما الآن فأنجب مسلمو هذه الدول أبناء وصارت لهم عائلات ، وأنجب أصحاب الديانات الأخرى أبناءً وصارت لهم عائلات ، ولم يعرف هؤلاء وأولئك بلداً لهم إلا هذا البلد.. وبينهم عيش مشترك ، ألا يصبح هذا العيش المشترك مهدداً إذا ما تم فرض شريعة على الكل؟

وسيذكرنا البعض بوثيقة الأزهر ، وتمسك الأخير بالمادة الثانية بأي صياغة كانت ، والوثيقة نراها سياسية أكثر منها أي شيء آخر ، فبعض المحسوبين على التيار الليبرالي يرى في أن يضع الأزهر اسمه على وثيقة وضعها مثقفون مقدمة لأن يكون الأزهر الذي لا يزال يحظى باحترام لدى كثيرين من المصريين صدادة في مواجهة تيارات الإسلام السياسي والإسلام السلفي ، وما دامت التيارات المتطرفة تلعب سياسة باسم الدين فما المانع أن يلعب الأزهر هو الآخر دوراً سياسياً ما دام محتفظاً بمرجعيته المستنيرة ، وهو أمر يصطدم وثوابت الليبرالية التي تبعد المؤسسات الدينية عن السياسة شكلاً وموضوعاً..

إسلامية الدولة لا تحتاج إلى نص دستوري ، والتعايش المشترك بين الأديان لا يكفله حكم دين بعينه ، ومعنى الدولة الحالي يختلف كثيراً عن دولة الخلافة التي يسعى البعض لتحقيقها على حساب بني وطنه وبني دينه أحياناً..

ومؤيدو بقائها : لماذا نلغيها إذن؟

من المفترض حين نتحدث عن تشريعات وقوانين أنها صنعت لهذا المجتمع دون غيره ، أي أنها منه وإليه.. والمجتمع المصري مسلموه ومسيحيوه متدين بطبيعته .. أي أنه لا يمكن حذف الدين من تكوينه الثقافي ومن سلوكياته مع النفس والغير ، فلدى المصري العادي ، أيا كان مستوى تدينه ، وأياً كان دينه بالتأكيد ، ثقافة الحلال والحرام ، والخوف من الله وتقواه ، يتمسك بالعامل الديني في تنظيم كثير من شئونه الدنيوية وأحواله الشخصية من زواج وطلاق ومواريث وخلافه ، كيف إذن نفرض على المصريين دستوراً لا يضع في أساساته مكوناً بهذه الأهمية في حياتهم؟

لمن يرى أن أغلبية السكان كافية للحديث عن هوية الدولة دون أن ينص عليها في العقد الأساسي الذي يجمع أفراد هذه الدولة ألا وهو الدستور ، الإسلام هو جزء من لا يتجزأ من الثقافة في مصر ، شاء هؤلاء أم أبوا ، ويلعب فيها دوراً هاماً للغاية بل هو الأهم على الإطلاق ، شأنه في ذلك شأن اللغة العربية التي ما كانت لتنتشر لولا القرآن الكريم ، والتي كتب بها كل الموروث الثقافي الذي تكون منذ الفتح الإسلامي وإلى مدى لا يعلمه إلا الله.. وصنعت بها مصر تأثيرها في محيطيها القاري والإقليمي.. ويتخاطب بها الناس فيما بينهم داخل البلد مهما كانت ديانتهم.. النص على أن يكون للدولة دين رسمي ، ولغة رسمية ، ليس بغرض الفرض ، وإنما بغرض التوصيف.. لك أن تتخيل جهاز كمبيوتر بلا "أوبشن" يمكنك من معرفة مكونات الجهاز وماركاتها وإمكانياتها ، أو أي جهاز تشتريه دون أي معلومة عن بلد منشئه ، أو أي منتج غذائي بلا تاريخ إنتاج وتاريخ صلاحية وبلا أي شيء عن الشركة المنتجة له بالتأكيد.. إن تخيلت أشياءً كهذه وصدقت في وجودها تستطيع أن تتحدث عن بلد بلا مواصفات..

الإسلام أبعد من أن يكون علاقة بين العبد وربه فحسب ، الدين عقيدة وعبادات ومعاملات ، وتحت المعاملات نستطيع أن نضع ما شئنا من خطوط ، فهي لا تشمل المعاملات بين المسلمين وبعضهم البعض بل حتى المعاملات بين المسلمين وغير المسلمين.. والمسلم يؤمن بأن كل ما في حياته من عقيدة وعبادات ومعاملات- بمفهومها سالف التوضيح- لله وحده-قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162-163). .. ومن تلك المعاملات ما تنظمه الدولة وتشرف عليه ، الدولة تشرف على تطبيق الحدود ، ولا يشرف عليها المسلمون "منهم لنفسهم" ، وتتكفل هي بالإشراف والتحقيق والتحقق والحكم.. ولا نعرف ما هو الخطأ -بالمناسبة - في تطبيق الحدود من حيث هو ، فالعديد من الجرائم صارت تحتاج لقوانين قوية وعقوبات رادعة حمايةً للمجتمع ، وأن يتم وضع تلك العقوبات في نصوص قانونية لها حجيتها وما "يسندها" ويدعمها ، وتطبقها الدولة التي يحترمها الجميع ويحترم قوانينها ، أفضل من أن تطبق في الشارع بشكل عشوائي يفتقد في أحيان كثيرة للحد الأدنى من العدل ، ويحكمه التشفي وتسيطر عليه روح الانتقام.. الإسلام دين عالمي ، تبقى ثوابته مشتركة بين كل دياره ، ويبقى شكل التطبيق والاجتهاد محكوماً في كل بلد بما يناسبه ويتواءم مع تركيبته..

الشريعة ليست فقط الأحكام المنصوص عليها في الكتاب والسنة ، صحيح أن القواعد الأساسية والثوابت لا خلاف عليها ونُص عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية ، وأنه "إن الحكم إلا لله" (الأنعام: 57) وأننا مجرد مطبقين ، لا خلاف في ذلك ، لكن هناك مكون آخر هو الاجتهاد والاستنباط (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء:83) ، وهو مكون يتمدد مع ظروف الواقع الحالي وقد يغير من شكل تطبيق حدود وأحكام وردت في القرآن والسنة وممارسات السلف الصالح ، كما اجتهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الزكاة دون أن يهاجمه أحد ، علماً بأنه في زمانه عاش عدد غير قليل من عمالقة الصحابة رضوان الله عليهم..

ترك الأشياء "عايمة" كما هي بلا ضابط ولا رابط قد يجعل من ممارسات مرفوضة مجتمعياً ، يرفضها الشعب المتدين وتأباها قيمه ، المستمدة في معظمها من الدين ، أموراً مشروعة طالما لا يوجد ما يمنعها في القانون ، إن احتكمنا إليه وحده كمرجعية تحدد العلاقات بين الناس في هذا البلد ، لهذا كانت المادة الثانية وما زالت صمام أمان ، حمت وستحمي المجتمع من ترك العلاقات غير المشروعة والشذوذ الجنسي والزنا والرشوة وغيرها مباحة بقوة الاستمرار وبعدم وجود نص ، حتى ولو كان الوازع موجوداً ، فالوازع وحده لا يكفي ، يجب أن يكون هناك قانون ، وقانون محكوم بنفس القوة التي تحكم الوازع ، يطبق على الجميع بلا استثناء دون تفرقة على أي أساس كان.. لذلك كان وجود المادة الثانية وما زال حتماً لا ترفاً ولا اختياراً..

ولمن يزعم أن مقاصد الشريعة قواعد الأخلاق ، نرد عليه بأن قواعد الأخلاق هي مقاصد الشريعة ، وأن الإسلام دين جاء ليتمم مكارم الأخلاق ، لماذا إذن يتم نزع الأخلاق عن الدين وعن مرجعيتها الدينية؟ إذا كان الليبراليون يرفضون أن يضم إلى الدين ما ليس فيه ، فليس من العدل أن ينزع من الدين ما هو فيه أصلاً وبني عليه..

مقاصد الشريعة إذن نقطة اتفاق لا نقطة خلاف ، نقطة اتفاق مجتمعي ، المسلم والمسيحي يتفقان على العدل والمساواة والحرية والكفاية والأمن على النفس والمال والعرض ، ومسلم المهجر الذي يعيش في أوروبا كأقلية لا يرفض أي نظام مبني على تلك الثوابت المنصوص عليها في الإسلام حتى ولو طبقها نظام عالماني صرف أو يميل لدين آخر ، نفس الشيء بالنسبة للمسيحي داخل مصر.. على أساس تلك النقطة عاش مسلمو البلد ومسيحيوه معاً وارتضوه ، لماذا نأتي اليوم لنفرض عليهم تغيير قواعد وشروط العقد ، الذي هو طبقاً لمبادئ القانون المدني ، شريعة المتعاقدين؟..

إذن ما يخشاه رافضو المادة الثانية بأي صياغة ليس هو فرض الشريعة .. بل قيم الإسلام التي يتغنون بسماحتها عندما تخرج من الجامع إلى الشارع ، ومن أرفف الكتب إلى حيز التطبيق.. بقوة الوازع أو بسلطة القانون..