Thursday, September 15, 2011

الأردوغانة

من الواضح أن المتطرفين دينياً والمتطرفين عالمانياً يحققون انتصارات بالأهداف التي يسجلها الفريق الآخر في مرماه.. مجرد ملاحظة افتتاحية..

لمن يستغرب الاحتفاء المبالغ فيه بـ"رجب طيب أردوغان" في مصر ، في زيارته الأولى الرسمية بعد الثورة ، أذكره بالتعبير المصري العجيب "ما غريب إلا الشيطان" ، تخيل لو أن "محمود أحمدي نجاد" زار القاهرة غداً صباحاً ، سيجد من يهللون له ويطبلون ، بالتأكيد سيكونون غير من وقف في استقبال "أردوغان" ، والمطلبلون للمشروع الطهراني ما أكثرهم ، ولو جاء "هوجو شافيز" سيجد فرقة ثالثة في انتظاره.. وهكذا.. هل لذلك علاقة بأننا - بحسب تعبير مصري آخر - "زي القرع نمد لبرة" ، أم لأن لدى بعض النخبة والإعلاميين و"المفكرين" حالة من الانبهار بأصحاب تلك النماذج كانبهارنا بأي نجم سينمائي يأتي إلى القاهرة في مهرجانها السينمائي؟

لكن ما استوقفني أكثر هو النموذج التركي ، تركيا الدولة المحظوظة دائماً.. دائماً ما تجد ما ينبهر بها نفس انبهار البعض بـ"مهند".. سواء عندما كان العالمانيون في سدة الحكم لفترات طويلة أو عندما وصل الإسلاميون إلى السلطة ..

العالمانيون المصريون في معظمهم ينظرون نظرة إعجاب "أكثر من اللازم" -لم أستعمل عبارة أدق- للعالمانية التركية ، التي لا تمت للعالمانية الأوروبية بصلة ، بما أن السيد "أتاتورك" قرر فصل الدين تماماً لا عن الدولة بل عن الحياة ككل ، وألغى أي دور للدين في هوية الدولة الثقافية وفي حياة عامة الناس ، ما دامت "الخلافة الإسلامية" كما يرى ورطت البلاد في حروب ومشاكل عدة (وهي التي أعطتها في وقت سابق قوة سياسية وعسكرية واقتصادية ضخمة ، الناس بس بتنسى بسرعة) فالحل هو التخلص من الاثنين معاً ، "الخلافة" و"الإسلامية" ، بما أن أي حديث عن "الإسلام" كجزء من هوية تركيا يعني دولة خلافة (وهذا الهبل انتقل إلينا حتى صار كثيرون-"إسلاميون وغير إسلاميين" - لا يميزون تقريبا بين الإسلام -الدين- والإسلاميين).. المضحك أن "أتاتورك" ظل طوال الوقت يقنع الأتراك بأنهم جزء من أوروبا ، وأن الحل الوحيد لتقدم هذا البلد هو "أوروبته" ، ودمجه في نمط ثقافي أوروبي واحد (بعد نجاحه في تنميط الناس داخل تركيا باسم العالمانية كما نجح آخرون في تنميط الناس باسم الدين) ، وهو النمط الذي ثبت فشل ضم دول متباينة الثقافة ومتعددة الأعراق تحت لوائه، وظهرت الحركات اليمينية والقومية المتطرفة في أوروبا ، وفي فرنسا وألمانيا بالتحديد ، كرد فعل عليه ، تحت اسم الدفاع عن "خصوصية الدولة الثقافية والاقتصادية" ، ولم تكن تركيا بمعزل ، حيث عاد القوميون المتطرفون والإسلاميون للظهور على السطح ، كرد فعل لـ"دفس" تركيا في الثقافة الأوروبية.. والمضحك أكثر أن الأتاتوركية - التي تأثرت بالعالمانية الفرنسية - كما يرى الكاتب التركي "مصطفى أكيول"- طبقت الفكرة على طريقة "محمد صبحي" في مسرحية "تخاريف" .. لحد نص الكتاب واقلب .. فالعالمانية الأوروبية لم تلغ حرية المواطنين في التعبير عن هوياتهم الدينية (عكس تركيا) بالرمز أو بإنشاء دور العبادة ، هي فقط كونت دولة مدنية لا دور لرجال الدين فيها .. ولأن الأتاتوركية قد نجحت وباقتدار في تصدير الأتراك إلى أوروبا-وألمانيا بالتحديد (حيث يشكل الأتراك تقريباً أكبر جالية أجنبية في ألمانيا) فقد اصطدم فهمهم للعالمانية ليس فقط بالمحافظين دينياً ولكن حتى بالعالمانيين أنفسهم (العالمانيين اللي في أوروبا بيقولولك العالمانية مش كدة) مما جعلهم "ثقيلي الظل" على قلب المحافظين والمتطرفين والمعتدلين على السواء ، وما قصة "إيجول أوزكان" التي سبق تناولها منا ببعيد ..

وسبحان مغير الأحوال ، وصل الإسلاميون إلى السلطة ، وتولى "رجب طيب أردوغان" رئاسة الحكومة ، وبدأ التهليل ، جماعات الإسلام السياسي ، والتيارات السلفية ، والصوفية ، بما إن الخلافة راجعة راجعة ، ونسبت كل فئة النجاح إلى نفسها ، الإخوان مثلاً يرون أن حزب "الفضيلة الحاكم في تركيا هو امتداد للإخوان، رغم التباين بين إخوان مصر وإخوان تركيا ، والتيارات الصوفية تعتبر ذلك انتصاراً لنفسها وبأنها إن وصلت للسلطة في مصر أو اقتربت منها فسوف تقدم صورة متسامحة ونهضوية للإسلام (والصراحة تاريخ الطرقية في مصر مشجع جحيم على النهضة) ، أما السلفيون فرأوا في الأردوغانية نجاحاً للإسلاميين عندما يصلون إلى السلطة (شفتوا) ..

"أردوغان" حاول فقط تطبيق سياسة "عربية" على غرار سياسة "فرنسا العربية" التي طبقها "جاك شيراك" لفترة ، رأى في العالم العربي مستقبِلاً- بكسر الباء- أفضل لتركيا من أوروبا ، وسوقاً مفتوحة للمنتج التركي سواء أكان منتجاً صناعياً أو ثقافياً ، وحتى تلك السياسة "العربية" لم تخلُ من براجماتية كالتي سادت علاقات تركيا الأردوغانية مع الكيان الصهيوني ، سواء فيما يخص الشأن الليبي أو السوري..ورغم ذلك نحن منبهرون به عاطفياً ، بسبب موضوع سفن غزة أو سحب السفير على خلفية الاعتداء على السفن التركية..

سبحان الله ، دولة انبهر البعض بها عندما طبقت شيئاً ، وانبهر البعض الآخر بها عندما طبقت عكس هذا الشيء ، هل سنظل ننبهر إلى الأبد؟ هل "التتنيح" ممتع إلى هذا الحد؟

انتشر الإسلام في بقاع واسعة من العالم ، متعددة اللغات والثقافات والأعراق ، وبالتالي متعددة الأفهام له وللدنيا ، بل يتغير الفهم والتطبيق للدين داخل نفس البلد من نقطة زمنية لأخرى ، لم يمانع الإسلام في تنوع نظم حكم بلاد العالم الإسلامي ، لم يرفض الملكيات بأشكالها ولم يرفض الجمهوريات بأشكالها ، الآن لا توجد دولتان في العالم الإسلامي يطبقان نفس نظام الحكم بحذافيره تقريباً ، لم يصادر حق أي دولة في تبني أي نموذج تنموي أو نهضوي (معلهش الحنجوري جه مني كتير شوية النهاردة) لا يخالف ثوابته العقيدية ولا القيمية..

من حقنا أن يكون لنا نموذجنا الخاص ، وحلولنا الخاصة ، دون انبهار أحمق بأي نموذج مستورد من الخارج ، سواء من إيران أو من تركيا أو حتى من إندونيسيا ، ليس عيباً ولا حراماً ، تذكروا أن الله عز وجل خلق الناس مختلفين متباينين ، حتى التوائم المتماثلة.. خلقنا الله عز وجل مختلفين متباينين ، في الثقافة والشخصية والفكر ، و"كل واحد ينام على الجنب اللي يريحه".. كما يقول التعبير "المصري" بالمناسبة..دمتم بخير..