Saturday, June 20, 2009

عركة أولاد خامنئي!

شاهدت اليوم صورة لما يمكن أن يكون عليه الوضع إذا ما قفز المذهب إلى السلطة ، وإن كان يصعب تشبيه الصورة الإيرانية - بيني وبينكم - بأي صورة أخرى!
0-إيران هي إحدى ثلاث دول دينية بمعنى الكلمة في عالم اليوم ، لا يمارس فيها رجال الدين السياسة فحسب ، بل يحركون كل خيوط وعرائس اللعبة تقريباً .. هذه حقيقة يتفق فيها معي أكثر مؤيدي ومعارضي النظام الطهراني على السواء.. والفرق الوحيد بين المؤسسة الدينية المسيطرة على السلطة في إيران ، والمؤسسة العسكرية المسيطرة على السلطة في تركيا (النقيض المنطقي لإيران) ، هي أن تلك الأخيرة تترك لرئيس الحكومة بعض حرية الحركة في المسائل الداخلية والاقتصادية في حدود معينة لا يتخطاها ، وإن تخطاها فالباقي معروف ، أما الأمور أبسط بكثير في إيران التي لا يُترك فيها أي شيء عادةً لرئيس الحكومة ولا لرئيس الدولة ، أياً ما بدا لنا من كاريزما "نجاد" أو "إصلاحية" "خاتمي" و "موسوي"..

1-قبل أيام دارت انتخابات رئاسية عنيفة في إيران بين "أحمدي نجاد" المدعوم فعلياً من قبل المؤسسة الدينية المسيطرة على السلطة في إيران ، وبين "مير حسين موسوي" السياسي المخضرم والمدعوم من "آية الله الخميني" شخصياً والذي تولى رئاسة الوزراء حتى تم "إلغاء المنصب" في عام 1989.. ووسط أحداث مثيرة للجدل تقدم "نجاد" على "موسوي" الذي احتج على النتائج ونزل أتباعه إلى الشارع ووقعت مصادمات دامية وصفتها صحف في المنطقة بأنها ثورة على الثورة ، وهذا كلام فارغ..

2-فالكل هم أبناء ما يسمى بـ"الثورة الإسلامية" التي قادها "الخميني" قبل ثلاثة عقود ، أبناء نفس المدرسة التي يُعَدّ"علي خامنئي" المتحدث الرسمي باسمها ، والذي خطب -الجمعة- وسط حشد غفير بينهم "نجاد" نفسه .. وبالتالي يصعب الحديث عن أي تغيير أو ثورة على الثورة في إيران ، ولو أن شخصاً ما ترشح للرئاسة مطالباً بتغيير المفاهيم عن علاقة الدولة بالدين فسيحدث له ما حدث لـ"سرحان عبد البصير" في الأتوبيس في "شاهد ما شافش حاجة"!

3-ويستشعر من شاهد خطبة "خامنئي" التي جاءت بعد تلك الأحداث بكثير بأن من نزلوا إلى الشوارع ومن قامت الدنيا ولم تقعد عليهم أقلية قليلة جداً وسط "الجماهير الغفيرة" -مع الاعتذار لـ"جلال أمين" - التي يحركها "خامنئي"- أو من في منصبه - بعبارة حماسية فيهتفون ، أو بحديث ذو شجون عن "آية الله" فيبكون ، ووسط نفوذه الديني الكبير عليهم يمكنه أن يقنعهم بأي شيء ، بأي أي شيء مهماً كان غريب الشكل..

4-نحُّوا جانباً فكرة تحيزه الشديد لـ"أحمدي نجاد" ، أغرب فقرات الخطاب كانت عن رفض "خامنئي" لفكرة الاستماع لصوت الشارع أو التحاور مع بعض أطيافه قائلاً "إن البعض يتوهم أن الاحتجاجات الشعبية ستكون قوة ضغط على النظام وهذا تمهيد للدكتاتورية".. وهذا الكلام جميل إذا ما قيل في أي دولة في العالم غير إيران ، التي قامت فيها أشهر ثورة شارع في النصف الثاني من القرن العشرين ، ولولاها لما وقف في هذا المكان يخطب في تلك الآلاف المؤلفة من البشر..
5-ثورة إيران إذن ثورة شارع وليست ثورة شعبية ، في الثورات الشعبية يدفع الناس بشخص ما أو مجموعة ما إلى السلطة (كما حدث في مصر سنة 1805 بشكل غير مباشر) ، ثم يصر الشعب (أو ممثلوه في حالة "محمد علي") على مراقبة أداء من أوصلوه إلى السلطة (وهو ما رفضه طبعاً "محمد علي") ، أما في ثورات الشارع التي يهلل لها البعض عندنا فالأمر يختلف ، مجموعة معينة تقود الجماهير وتحركها إلى أي اتجاه تشاء ، دون سؤال أو مسائلة أو رقابة.. حتى لو انقلبت تلك المجموعة على المبادئ التي لطالما تغنت بها ، بل وحتى لو قالت للشارع أنك كنت ضحية مقلب للكاميرا الخفية.. ولن يغضب الشارع الذي اختارهم ليس بمحض إرادته بين بدائل مختلفة ، ولكن اختارهم لسببين ، السبب الديني المذهبي الذي من الممكن أن يختار من أجله أشخاص آخرين البديل الصوفي أو السلفي في بلاد أخرى ، والسبب الثاني ببساطة هو أن ديكتاتورية الشلة ، أو أي نوع من الديكتاتورية ، تؤمن نوعاً من النظام الصارم الذي يشكل لدى شرائح مهمشة وفقيرة وبسيطة في نصيبها من التعليم نوعاً من أنواع الأمان.. ولو على طريقة البنج الموضعي (الذي جربته في مسائل الأسنان وفشل فشلاً ساحقاً)..

6-وبالتالي فإن وجود أي شكل من أشكال الانتخابات في هذه الدولة مضيعة للوقت ، كأنك تتحدث عن كرتين في الملعب في مباراة لكرة القدم القائمة على تنافس فريقين على كرة واحدة فقط .. من تدعمه المؤسسة هو الفائز ، ولا يستطيع أي مرشح من خارج الدائرة التي تحظى بـ"قبول" -وليس بالضرورة "رضا" -المؤسسة الدينية السياسية اللعب في الحديقة السياسية أو المطالبة بمنصب عن طريق الانتخابات.. كل المرشحين في الأول والأخير هم أبناء "الخوميني" ومن بعده "خامنئي" ، ومع الاعتذار لـ"حسن نصر الله" : خلي القوس مفتوح..

بعض معارضي النموذج الإيراني مذهبياً وفكرياً يتمنون في قرارة أنفسهم - كما أشعر عن نفسي - بأن يكونوا مكان "خامنئي" وبأن تهتف لهم الجموع بنفس الشراسة وأن يتفاعلون معهم لدرجة الإجهاش بالبكاء ، نعم يتمنى هؤلاء ذلك سواء أكانوا من دولا أو دوكهمة ، بل وحتى من يقولون أنهم من أنصار الدولة المدنية ، حد يلاقي دلع وما يتدلعش؟..إذا كان "الخميني" نفسه عمل على مدى أربعة عشر عاماً لتوصيل "زعامته" الدينية للإيرانيين حتى صارت تجري في العروق مجرى الدم ، فربما من كان يستهويه "النموذج" على استعداد لأن يصبر نفس صبره حتى يحقق نفس النتيجة ولو ذهبنا وذهبت بلادنا في ستين ألف داهية..
مؤيدو النموذج الإيراني في مصر -منهم يساريون وأتاتورك وناصريون..متستغربوش- حكايتهم حكاية ، وروايتهم رواية -مع الاعتذار لـ"منير" ، فهم الذين يجعجعون برفض أي نظام سياسي على أساس ديني أو مذهبي ، بينما يؤيدون نظاماً على الطريقة الإيرانية ، وليس لديهم مانع من مشاركة رجال الدين في السياسة بمن فيهم السلفيين الحسانيين أو المستصوفين ، كما صدعونا بضرورة خروج الناس إلى الشوارع للمطالبة بالحرية ، وإذا هم صامتون تجاه ما يحدث للمتظاهرين المطالبين بأن يرأسهم شخص آخر لا يقل "صقورية" عن "أحمدي نجاد"..

قد تحتمل رؤيتي الخطأ قبل الصواب ، لكن ما يحدث في إيران كما أراه ليس دليل ديمقراطية ، وليس دليل حراك سياسي (يعني فشنك هناك زي ما هو فشنك هنا).. إنه مجرد "عركة" بالتعبير السكندري ، بما أن "مصارين البطن بتتعارك".. في نفس شدة عراك آخرين على القيام بدور "خامنئي" على طريقتهم الخاصة وبالمسميات التي يرضونها ، والله عز وجل أعلى وأعلم..

ذو صلة: تقرير عن خطاب خامنئي من "الجزيرة" ، وأبرز عباراته من "العربية".. ورد "موسوي" عليه.. وكيف رأى الكاتب "عمار علي حسن" الصورة نقلاً عن "العربية" عن "الاتحاد" الإماراتية..كما كتب زميلنا "أحمد شقير" في الموضوع..
* مهدى إلى العزيزين "د.أسامة القفاش" و "محمد عادل" صاحب مقال رائع كتبه قبل أشهر عن "مدافع آية الله" كتاب "حسنين هيكل" كما رآه..

Thursday, June 11, 2009

"قداسة" الاجتهاد؟

فضلت العودة بعد غياب طويل بمجرد خاطرة آمل أن أنجح في توصيل وجهة نظري فيها..

لن أتكلم هنا عن المشروع المقترح بقانون نقل الأعضاء في حد ذاته ، ولن أتكلم عمن يطالبوننا بالتبعية الفقهية الكاملة والتامة والغير مشروطة لأن الدخول في حوارات مع هؤلاء وفي هؤلاء أمر رافع للضغط ، وهو آخر ما أريده بعد فترة ارتفع فيها ضغطي على المستوى الشخصي بما يكفي .. فقط أتطرق لنقطة أثيرت في نقاش حول هذا الصنف : "لماذا لا نأخذ برأي أي عالم أو أي دولة اجتهدت في مسألة ما؟ طالما الدولة الفلانية قالت Yes وهي أكثر تشدداً منا لماذا نقول No?"..

سؤال طبيعي بما أن الاجتهاد - الحقيقي - سيء السمعة في بلادنا ، خاصةً في وجود من جعلوا الاجتهاد باجتهاداتهم سيء السمعة.. وفي غياب قامات تتخطى حد "المحدث" إلى حد "الفقيه المجتهد".. مثل الشيخ " محمد الغزالي" رحمه الله..وبالتالي يبدو ما يثار حول الاجتهاد في مجالسنا العامة وعلى صفحات الجرائد ومواقع الإنترنت أشبه بنقاش عن كيفية ضخ الفحم الحجري في ماكينة تعمل بالبنزين!

الاجتهاد مصدر من مصادر التشريع له ترتيبه ، يأتي في مستجد لا نص فيه ، ولكنه قد يمس جانباً فقهياً فيه نص سواء في الأحكام (ما يثار عن علاقة فوائد البنوك بالربا مثلاً ، ولن أناقشه هنا) أو مقاصد التشريع العامة سواء العدالة أو سلامة النفس والمال والعرض ..

وطالما نتحدث عن أمر مستجد تفرضه حاجة (وليس لمجرد العبث الفكري) ، أي أمر لم يكن له وجود في فترة سابقة وسيأتي وقت لن يكون له فيه وجود ، فالاجتهاد في المتغير متغير ، من مكان لمكان ومن زمان لزمان ، طبقاً لاختلاف الزمان والمكان ، ما يترتب عليه نفع أو ضر في بلد قد لا يترتب عليه نفس الشيء في بلد آخر.. لكل مجتمع ظروفه وخريطة المصلحة العامة فيه التي تختلف عن أي مجتمع آخر.. وطبقاً لطبيعة المستجد .. فالمخدرات التي اجتهد العلماء في تحريمها حرمت على أساس أن "كل مسكر حرام" .. وأن المخدرات مواد لها تأثير مسكر ، ولو لم يكن في المخدرات التي لم تظهر بشكلها المتعارف عليه وقت نزول الوحي الخاصية الخواص المسكرة المخدرة المدمرة للصحة بكل حزمة المفاسد المترتبة عليه لما حرمت.. وبالتالي - فرض جدل - سيبقى الاجتهاد بحرمة المخدرات قائماً ما دامت المخدرات على ما هي عليه..

ليس للاجتهاد قداسة ، فقد تم الدين بنص القرآن الكريم ("اليوم أتممت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" المائدة : 3)- وهي من أواخر ما أنزل من القرآن الكريم- وعليه انتهت مرحلة "التشريع" وبدأت مرحلة "الاجتهاد" في مواجهة المستجدات ، أضف إلى ذلك أن الاجتهاد مجرد رأي ، قد "يصيب" و قد "يخطئ" بنص الحديث ، أي أنه نسبي يحتمل الصحة والخطأ من شخص لشخص ومن بلد لبلد ومن زمن لآخر..

وعليه ، من الممكن أن يجتهد الشيوخ السعوديون - مثلاً - في أمر ما يرونه صائباً بفتوى معينة فيما يخص ظروف المجتمع السعودي ، فاجتهاد هؤلاء قد يحتمل -أصلاً- الصحة والخطأ ، وقد يكون له محله هناك ولكن ليس له محل هنا في مصر .. فالدين واحد (الخمر حرام في أي مكان) ولكن الدنيا مختلفة.. وعليه فقبل الأخذ بأي اجتهاد يأتي أولاً وبشكل حتمي عرضه أولاً على ظروف البلد وخريطة المصلحة العامة فيه (لا ننسَ أن درء الضرر مقدم على جلب المنفعة - مبدأ فقهي إسلامي) .. وليس "شغل الكوبي والبيست" الذي نسمعه هذه الأيام..

ألتمس وبشدة العذر لمن يرى بإلزامية الاجتهاد بشكل عام ، فنحن تربينا جميعاً على مفاهيم عن "وحدة الأمة" ما أنزل الله بها من سلطان ، تختزل وحدة المسلمين في وحدة الهلال ووحدة الفتوى فقط ، وعليه يبدو الاجتهاد الذي تحول إلى فتوى كقرار وزاري يجب تنفيذه حتماً في جميع المصالح التابعة للوزارة ، وهذا ليس صحيحاً على الإطلاق ، والأنكى أنه وصل في زماننا الخلط بين الديني الصرف والدنيوي الصرف والديني الدنيوي إلى أسوأ مستوياته ، وعليه فلنشرب فوضى اجتهادات وفتاوى من هنا لـ"بكرة الصمح" ، وأصبح لدينا بعض المتحدثين في الدين والدعاة وشيوخ الفضائيات وحتى من يزعمون أنهم مفكرون إسلاميون -من عينة صاحبنا "المفكر الإسلامي" إياه المتواضع على طريقة "سعد الدالي" - بدورهم يرون أن الاجتهاد مثل قرارات حكام كرة القدم ، لا نقض ولا استئناف ، وهذا أيضاً ليس صحيحاً على الإطلاق..

نعيب زماننا ، والعيب فيه ، وفينا ، وفي المجتهدين معاً..والله أعلى وأعلم..