Thursday, March 18, 2010

الآتي بعد : صوب زجاجية

نعم.. هناك حساسيات .. منذ زمن بعيد.. وليست وليدة اللحظة..لا يشكك في وجودها منظر لمئذنتي مسجد بجانب برج كنيسة تجاورا من قبيل الصدفة ، ولا مشهد مفتعل لشيخ بجوار قسيس في مؤتمر أو في ندوة أو في مسلسل ، ولا مقالات مدعيي الليبرالية في "روزا" وأخواتها ومزايداتهم وتزيدهم أحياناً.. ولا أي شرح لتاريخ التعايش بين المسلمين والمسيحيين على أرض المحروسة .. ولا أي تذكير بتاريخ التعايش عموماً وبالنماذج الدالة عليه في السيرة النبوية أو في التراث المسيحي أو.. أو..أخدع نفسي وأخدعكم إن لم أقل غير ذلك..

وأخدع نفسي- بالمثل- إن لم أقل أن الحساسيات ستظل قائمة في أي مجتمع به أديان ومذاهب متعددة ، أياً كانت ليبراليته ، وأياً كان تسامحه ، وأياً كان المش عارف إيه .. لسبب بسيط .. وهو أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق عبيده "اسطمبة واحدة".. خلقهم متباينين في كل شيء ، في الشكل ، واللون ، وطريقة التفكير ، وفي الاعتقاد ، بل وفي الإيمان به من عدمه .. والأهم أنه خلق لهم كوكباً واحداً يتعايشون عليه فيما بينهم.. وأن يصرف الجميع أموره على هذا الأساس.. لأنه لا توجد أي قدرة لأي مخلوق على أن يطبع الآخرين بطباعه ولو كانوا من لحمه ودمه..فما بالكم بمن ليسوا كذلك..

وما يعزز ما أقول ببساطة هو أنه وبعيداً عن الإكليشيه الرخم عن بحر التسامح الذي نبلبط فيه منذ سنوات طويلة فإن حالنا أفضل من حال كثيرين في هذا العالم ، فنحن على الأقل نعيش في صوب زجاجية تغلفنا بعيداً عن أعين الناس الوحشين الذين ليسوا مثلنا..رغم أننا عندما نخرج من تلك الصوب إلى الشارع إذ نفاجأ بأنفسنا نحتك ليل نهار بأولئك الوحشين!

هذه الصوبة قد تكون عمارة يسكن كل شققها أصحاب نفس الدين أو المذهب دون غيرهم ، أو عدة عمارات ، أو تجمع عمراني محدود تنطبق عليه نفس الشروط ، يكون ممحوراً حول دار العبادة أحياناً كمركز له ، سواء أكان كنيسةً -بالنسبة للمسيحيين- أو مسجداً يتبع فرقة مذهبية معينة كمساجد السلفيين مثلاً.. وحوله تتوافر مكونات "شبه مجتمع" خاص بتلك المجموعة تشكل "بديلاً خدمياً" لما يقدمه المجتمع المحيط و/أو الدولة.. إشي عيادة على صيدلية على سوبر ماركت على ..على .. على ... .

وكأي "تطور طبيعي" لأي شيء بما فيه الحاجة الساقعة لم يقنع أصحاب الفكر "الصوبي" -مسلمين كانوا أم مسيحيين- بهذا البراح الضيق لصوبتهم العزيزة ، فرأينا أمثلة على أن الصوبة من الممكن أن تكون قرية بكاملها ، كما حدث في "أبو حنس".. صوبة يدافع عنها أصحابها بكل الطرق ، ويستغل "البعض" ذلك ويستثمر فيه سياسياً ليكرس للفكر الصوبي تحت ستار حماية الاستنارة والوحدة الوطنية.. حماية الوحدة الوطنية بحبس المسلمين والأقباط كل في صوبته الزجاجية الخاصة به ، وربما بحبس مجموعات من كل مذهب هنا وهناك في صوب مماثلة.. وسلم لي قوي على التعايش!

ولا يشترط أن تكون الصوبة داخل إطار جغرافي محدد .. بل قد تكون الصوبة داخل الإنسان الواحد الذي يتوهم أنه في المجتمع المحيط خطر داهم عليه وعلى هويته .. فيبدأ في صنع صوبته بالبحث عن نمط معيشي وقيمي خاص به يفصله عمن حوله.. من بدأوا بالبحث عن المظهر الخليجي في بلد يختلف مناخه عن خط الخليج كله ، وعن لكنة يدفسها وسط العامية المصرية التي لم تعد تلائمه من وجهة نظره .. وعلى الجانب الآخر يتسابق من يتسابق على الهجرة إلى أمريكا وكندا ، بل ويعد نفسه وأبنائه لهذا الهدف ويسميهم بأسماء أجنبية بعيدة كل البعد عن الأسماء المسيحية المصرية كي تسهل اندماجهم في مجتمعات المهجر.. وفي الحالتين -هذه أو تلك- لا فرق.. العيش في مجتمع آخر داخل المجتمع أو التعامل مع مجتمعك كدار فناء تستعد فيها لدار البقاء!

لن تفلت بأي حالٍ كان من تأثير الصوبة الزجاجية حتى ولو لم تكن تعيش في واحدة.. فالذي يعيش داخل الصوبة يرى أولاً أنه الأفضل وأنه على حق وأن الآخرين أوغاد ، وأنه يجب عليه أن يحمي نفسه ، وأهله ، وحياته ، من أي تأثير محتمل للأوغاد.. وبالتالي تخيل ما سيحدث لو اضطر "الحلوين" للتعامل مع "الوحشين" تحت سقف عمارة واحدة أو في مكتب واحد في العمل أو في قاعة محاضرات في الجامعة .. مسلمون ومسيحيون ، وأحياناً مسلمون ومسلمون ، ومسيحيون ومسيحيون نراهم يستقبلون بعضهم البعض بابتسامة صفراء مضيضة تعكس اضطرار هذا الشخص للتعامل قسراً مع الشخص الآخر .. مع غمغمة في السر قد لا تجاوز الشفتين بعد انصراف الشخص الآخر تلعن السنين السوداء للجيرة الهباب التي جمعته بالشخص المنصرف ، أو المصلحة الهباب التي جعلته يضطر لمزاملته في العمل أو شراء أي شيء أو خدمة تأتي من وجه ذلك الشخص!

أصحاب الصوب المعقمة وسكانها يحبون أنفسهم لدرجة الأنانية ، لدرجة لا يتسع معها هذا العالم لغيرهم .. وعلى ذلك من الغباء الاعتقاد بأن أي احتكاك بين سكان الصوب وسكان الصوب الأخرى أو غير المعتادين على سكنى الصوب بشكل عام ، من الممكن أن يصل إلى مدى أعلى من التوتر .. ومن العصبية .. ومن التطئيف .. ومن العنف.. وسط تناسٍ تام بأن التعايش الحقيقي يمكنه أن يجنب الجميع ويلات صراعات ومشاكل طائفية يعلم الله وحده نهايتها..

ومن الطبيعي أن من لا يدرك أن التعايش "شيء كويس" لا يملك الاستعداد الكافي لهضم قانونه رغم بساطته .. صحيح أن ردود فعله تجاه "الآخر" قد لا تتسم بالعنف لأسباب لها علاقة بطبيعة المجتمع المصري نفسه ، لكن الرئات التي أدمنت هواء الصوب يصعب عليها تقبل الهواء العادي..

وللحديث بإذن الله تعالى بقية..

2 comments:

فارس... ولكن....... بلا جواد said...

موضوع رائع.. لكن اسمح لي، مازلت أري مجموعه من الاتهامات التي اتفق مع بعضها واختلف مع بعضها الأخر. أين الحل ؟! الرؤية ؟! اتفق معك تماماً أن البشر خلقهم الله متباينين، وأمر طبيعي أن يتجاذب المتشابه منهم أو بمعني أحري أن تكون المسافة مع من يشبهني أقرب منها في حال المختلف معي (ليس بضرورة أن يكون معيار التشابه والإختلاف هو ألدين في اعتقادي). سوءالي ، هل تري ذلك شيء طبيعي أم تراه حالة مرضيه تحتاج إلي علاج (بإفتراض أن الأمر لا يصل أبداً إلى حد ال-"تصوب" علي حد تعبيرك ) ؟


تحياتي

قلم جاف said...

فيتو..

في الأحوال العادية أو الطبيعية ممكن المتشابهين مع بعض يتقاربوا ، أو يكونوا شلل أو رباطيات على أي أساسٍ كان..

لكن فيه فرق إنك تنجذب لمجموعة مشابهة ويكون لك وللمجموعة موقف متعايش مع الغير .. (احنا صح بس معندناش موقف عدائي تجاه الغير).. وبين (احنا صح بس غيرنا غلط ووحشين ولازم يكون لنا موقف عدائي ضدهم)..علشان (وجودهم بيشكل خطر على وجودنا) أو (معتقداتهم معادية لينا) أو حتى علشان (دمهم تقيل)..

التشابه في الحالة الأولانية عادي وطبيعي.. سواء على أساس طبقي أو على أساس ديني حتى.. طالما الناس دي كلها بتؤمن بإنها عايشة في مجتمع يقدر يستوعبها كلها..

بينما الحالة التانية مشكلة، وهي تقريباً الواقع اللي بنعيشه مش بس على أساس ديني ، حتى كمان على أساس اجتماعي.. جايز ما نكونش لسة وصلنا لمرحلة "الجيتوهات" بالشكل الفاقع لكن احنا بالطريقة دي في الطريق لدة..

وبسرعة أكثر مما نتخيلها انت وأنا..