Sunday, March 25, 2012

الآتي بعد : البابا القادم ، بعين محايدة

أولاً أقدم خالص التعازي لكل المواطنين المسيحيين شركاءنا في الوطن في وفاة البابا شنودة الثالث ، والذي حظي على مدى سنوات بتقدير واحترام كبيرين من فئات كبيرة من الناس داخل مصر وخارجها ، مهما اتفقنا أو اختلفنا مع آرائه ومواقفه .. الشيء المؤكد أنه برحيل البابا تنتهي مرحلة وتبدأ أخرى ، تستحق من الجميع ، مسلمين ومسيحيين ، التأمل بعمق والتفكير بهدوء ، هذه التدوينة هي محاولة مني ، لرؤية المسألة بعين محايدة ، وكما سبق الذكر ، لن أدخل -كمدون مسلم- في تفاصيل دينية بحتة ، وإنما سأسلك نفس النهج الذي بدأته قبل تسعة أشهر في تدوينة "قلق عام".. تذكروا شعار المدونة : محاولة للفهم لا أكثر ، قبل أن نخسر أكثر..

1-سيأتي البابا القادم ، أياً كان ، وأياً كانت خلفيته ، في ظروف تختلف كلياً وجزئياً عن الظروف التي أتى فيها البابا الراحل ، واقع سياسي جديد يتشكل ، وصعود للتيارات الدينية بما يشكله من قلق لدى المسيحيين المصريين ، ومحاولة تيار المال السياسي اختراق المؤسستين الدينيتين الرئيستين في مصر ، وبالتأكيد الدخول في عملية الدستور بتحدياتها ، الآن ، لم يعد هناك مجال للعزلة التي ضربت على المسيحيين ، أو لنظرية الصوبة الزجاجية التي أثبتت أنها تضر من يحتمي بها أكثر ما تنفعه ، وتخنقه أكثر مما تعطيه من حصانة.. لكن هل ستساعد المؤسسة الدينية المسيحية المسيحيين على الخروج من الصوبة والمشاركة جنباً إلى جنب كمواطنين في بناء وطن بمقاييس جديدة؟ وبأي كيفية؟ للتذكير : أفراد أي مجتمع في أي مكان يعتنق أفراده أي دين ليسوا على شاكلة واحدة ، منهم المتدين ومنهم غير المتدين ، منهم المعتدل والمتطرف ، المتزمت والمحافظ والمتحرر ..

2-سيرث البابا القادم انتقادات وجهت للكنيسة المصرية وموقفها من الثورة بشكل عام ، انتقادات تعاظمت بالتأكيد بعد توابع الثورة ، سواء الحوادث الطائفية أو أحداث "ماسبيرو" أو التحالف مع قوى المال السياسي ، فضلاً عن موقفها من المجلس العسكري ، و .. ، و... بالتالي سيكون عليه امتصاص غضب المسيحيين المنتمين أو المتعاطفين مع "الحركات الثورية" باتخاذ ردود فعل "قوية" لا تجعل المؤسسة بمعزل عما يحدث في مصر ولا يجعلها تقف موقفاً سلبياً ، وتطمين عامة المسيحيين المتخوفين من تيارات الإسلام السياسي والتيارات المذهبية ، وهو ما قد يستتبع الدخول في العملية السياسية والدستورية ، تأييد تيارات وأحزاب بعينها ، بناء شبكات علاقات جديدة ، وهو ما قد يثير موضوع علاقة المؤسسة الدينية ، أي مؤسسة دينية ، أزهر أو كنيسة ، بالسياسة ، في دولة يفترض بها أن تكون دولة مدنية ، لا تلعب فيها المؤسسات والمجموعات الدينية دوراً سياسياً..

3-هناك ألف رأي ، وألف وجهة نظر ، وألف موقف ، هناك من رأى أن الثورة ستكون فرصة لإنهاء (ما يعتبرونه) تمييزاً ضد المسيحيين في مصر ، وهناك من انتقد الثوريين وربما الثورة لأنها تسببت في صعود الإسلاميين إلى السلطة أو اقترابهم منها ، وربما قد يهدد ذلك الدور الاجتماعي والسياسي للكنيسة (الذي يعتبرونه حمائياً) والذي كان وراءه صفقات مع النظام السابق ، ولا حل لحمايته إلا بصفقات جديدة وتربيطات وعلاقات (قد تكون بالتأكيد على حساب مدنية الدولة) ، هناك من يريد أن تكون الكنيسة هي الصدادة الدينية والسياسية للمسيحيين (وسيطالب بمزيد من التدخل الديني في الشأن الدنيوي والسياسي) ، وهناك من يريد دولة مدنية فعلاً ويقتنع أن المواطنة في ذاتها أساس يحدد علاقة المواطنين بعضهم ببعض دون تدخل من أي مؤسسة دينية كانت ، وهناك من يتستر بالدولة المدنية لتحقيق مصالح طائفية ومزيد من النفوذ (ولا مانع لديه في سبيل تحقيق ذلك من تدخل المؤسسة الدينية)، وهناك من يتمرد على كل شيء ، ويدخل الدين في حسبة تمرده على كل شيء (تماماً كأقرانهم من المسلمين).. وتضيف المجموعة الأخيرة المتسعة تحدياً أكبر للبابا القادم لاستعادتهم مرة أخرى إلى الكنيسة ، واستقطابهم بعيداً عن تيارات أخرى داخل الوسط المسيحي كي لا يشكل ذلك تهديداً للحضور الاجتماعي القوي للمؤسسة الدينية المسيحية الذي شهد تزايداً في السنوات الأخيرة..

4-في استنتاجي ، وقد يكون خاطئاً ، أن هناك صراع أجيال داخل الوسط المسيحي وحتى داخل المؤسسة نفسها بين جيلين ، الجيل الأول هو الجيل المحافظ ، المتمسك بقيم ليبرالية ولكن في إطار خطوط حمراء ومبادئ وثوابت وقيم ، مصدرها يرتبط عادةً بثقافة الطبقة الوسطى في فترة الأربعينيات والخمسينيات ، والجيل الثاني في مجمله يتحدث كثيراً عن ليبرالية ولكنه متشدد ، أفكاره لا تختلف الشيء الكثير عن أفكار المتشددين الإسلاميين أنفسهم ، ولكن طبعاً بنسخة مسيحية ، تبدو ثقافته مستوردة متأثرة بمن عاشوا في المهجر ، ولديهم دور ثقافي في ما يخص الجانب المسيحي من التوتر الطائفي ، من الآخر .. وكسب هذا الفريق الأخير أرضاً في زمن قياسي ، وصار له تواجد ، وصار صوته أعلى ونفوذه أقوى.. واستثمر أحلى استثمار في "الاحتقان الطائفي" ليقدم نفسه كفتوة ومخلص وحامٍ للحمى ، وعزز الاستثمار باستثمار جديد في الحالة الثورية.. وكل منهم يريد طريقة وسياسة معينة تتدخل بها الكنيسة في الحياة العامة فيما هو بعيد عن الشأن الديني ، وبين أولئك وهؤلاء كما قلت سابقاً بعض الليبراليين الحقيقيين (أي لا علاقة لهم بمن نراهم في الميديا) من هذا الجيل وذاك يرى أن أوضاع المسيحيين في مصر كانت أفضل دون أن تلعب الكنيسة دوراً سياسياً صارخاً ، ووقت أن كان المسيحيون أحراراً في الانضمام إلى أي حزب يريدون (من أقطاب الوفد والحركة اليسارية في مصر شخصيات مسيحية بارزة)..

انحاز البابا القادم لهذا أو لذاك ، تحرك في اتجاه السياسة بأي سرعة أو لم يتحرك ، أبدى اعتدالاً أو تشدداً ، سيكون رد الفعل على الجانب الآخر في ظل إلحاح على الزعامة الدينية (محدش بيعرف يعمل لهم حاجة علشان ليهم بابا وليهم زعيم واحنا لازم يكون لينا بابا ولينا زعيم) بنفس الشكل والمضمون والسرعة والقوة ، مع استمرار الاحتقان والتخندق ستصبح المسألة هكذا ، فعل ورد فعل ورد رد فعل ، تطرف هو سنتطرف نحن ، قام بصفقة تتخلى فيها الدولة عن دورها في أمور ما لتتركها له سنقوم نحن بنفس الشيء ، ومن يشمبر لنا نشمبر له.. ضعوا في الاعتبار أن هناك قوى سياسية تريد أن تجعل من الأزهر مؤسسة دينية لها لدى المسلمين نفس الوضع ، أو قريباً منه ، الذي تملكه الكنيسة بالنسبة للمسيحيين .. (رغم أن هذا ليس من اختصاصات الأزهر وليس من دوره ولا ينبغي أن يكون)..

ليس من السهل على أي شخص أن يقود أي مؤسسة دينية لأي دين كان ، سواء أكانت فكرة المؤسسة الدينية موجودة بداخل ذلك الدين من عدمه ، كل خطواته ستحسب عليه بالتأكيد ، أما اعتدالاً وتسامحاً وإما مزيداً من التطرف واللعب بالديناميت..

No comments: