لنعد مرة أخرى إلى الغلاسة والمواضيع ثقيلة الظل على حق..
ما هو الشكل المثالي لعلاقة المسلم بالدولة؟ هل هو السمع والطاعة العمياني أم التمرد والعصيان والرفض لكل شكل من أشكال الدولة لا يلائم المذهب الذي أنتمي إليه؟
عندما فكرت في علاقة الأحزاب الدينية (وهي كلمة سأستخدمها هنا في الحديث عن المذاهب) بالسلطة وجدت تناقضاً عجيبة ، وأشياء قد تفسر أشياء كثيرة تتعمد تلك الأحزاب في وسائل إعلامها الملاكي إثارتها وتحتوي على أطنان من اللغط..
بداية ، أجد تناقضاً عجيباً في شكل علاقات الأحزاب الدينية ، وما خرج منها من أفكار صاغت حركات الإسلام السياسي بالدولة ، ففي التيار السلفي والصوفي من يرى الطاعة العمياء لولي الأمر ، الذي هو قدر مقدور لا دور للاختيار ولا الانتخاب فيه ، بل ويصل الأمر لاعتباره "أمير المؤمنين" الذي "تجب بيعته"، وفي التيار الشيعي وبعض التيارات الجهادية وبعض الجماعات المتطرفة من يرى أن أولياء الأمر الحاليين جواسيس وخونة لا تجب طاعتهم ولا موالاتهم ويصبح من الحتمي الانقلاب عليهم حتى تعود العزة والكرامة للأمة ، وفي أكثر نسخ تلك الرؤية تطرفاً أن كل أشكال الدولة ونظمها كافرة..
تلك المسألة جمعت فيما يبدو "الشامي والمغربي" ، فمن ير كم العداء بين السلفية والصوفية لا يصدق أنهما قد يتفقان في شيء ، والشيء نفسه بين الفكر البنلادني والشيعي.. والغريب أنني ألاحظ - وربما تلاحظون - انقساماً داخل كل فرقة ما بين رؤية الطاعة العمياء ورؤية العصيان والمعاداة..
والأغرب في أداء الأحزاب الدينية المهادنة (أكثر من المطلوب) لولي الأمر هو الفصل بين رأس الدولة ومؤسسات الدولة ، نوع من "المماينة" يعني ، طالما أنت أرضيت رأس الدولة وبايعته في دولة نظامها يقضي بانتخاب رأس الدولة من عدة مرشحين فلا أهمية تذكر لمؤسسات الدولة الأخرى ولا للقواعد السياسية التي تنظم الدولة ، وللأسف فإن الحزب الوطني البيروقراطي (في الحالة المصرية) هو الذي شجع هؤلاء على المضي قدماً في هذا السخف..
الأسوأ أن هذه الأحزاب الدينية تمعن في استغلال هذا الوضع وتمارس السياسة بدون غطاء حزبي ، تلعب كجماعات ضغط ، وتعرض خدماتها على قوى سياسية ، وتستقبل مسئولين خارجيين وربما يأتي اليوم التي تستقوى فيه بالخارج .. والمبرر الجاهز طبعاً هو صالح الحزب أو المجموعة ، وهو مبرر فضفاض وواسع ، فلا تعرف إن كان يشير إلى مصالح الصغار أم مصالح الأتباع ، أو إلى بقاء كل شيء "على ما يرام" بالنسبة لتلك الفئة أم شيئاً آخر..وهذا كله رغم إيمان معظم هذه الفئات بأن من السياسة .. ترك السياسة!
هم إذن يمارسون السياسة بصفتهم الدينية ، فتلك الصفة الدينية في رأيهم تكفي .. ولا يوجد لديهم مفهوم واضح للمواطنة ، يوجد فقط الانتماء للحزب الديني ولا شيء أكثر .. ولا تصور سياسي إلا ذلك الذي يتماشى مع مصالحها ولتذهب الدولة في ستين داهية ، هذا ما يحدث في العراق والخوف كل الخوف من تكراره في مصر..
وفي هذا تخطي ، ليس فقط لما رسموه لأنفسهم "قدام الناس" ، ولكن لدورها داخل الدولة ، والدولة تشبه المسرحية لكل ممثل فيها دور محدد لا يجب تخطيه ، وعليه فمن الصعب بل من المرفوض أن يتخطى هؤلاء وغيرهم دورهم الذي افترضوه وافترضه المجتمع نفسه إلى دور لا يصلحون لأدائه!
ما سبق كان تلوياً لا يفوقه إلا تلوي المعارضين لمؤسسات الدولة ، "المشمأنطين" منها.. والذين يمارسون نوعاً من "التقية" السياسية تجعلهم يتعاملون مسدودي العين والأنف والأذن والحنجرة مع الدولة ، قائلين باستمرار أنهم يحترمون الدولة ومؤسساتها بينما يتحينون الفرصة المناسبة للقفز عليها..
كنتيجة لذلك ، يثير هؤلاء -الموالون على طول الخط والرافضون على طول نفس الخط- مخاوف بعضهم البعض (بسبب منطق يا أنا الكابتن يا مفيش لعب) ، ومخاوف وغضب عوام الناس من غير أصحاب الانتماءات المذهبية الدينية(بل وتقلل من تعاطف الناس غير المنتمين معهم إذا ما تعرضوا لاضطهاد حقيقي) بسبب لعبهم المستمر على وتر "الاضطهاد" واتصالات بعضهم المريبة بالخارج ، ومخاوف الجهات الأمنية (وبعضها مشروع ولها ما يبرره ، لو حنتكلم بصراحة) مما يدفعها للتضييق أكثر وأكثر عليهم..
والنتيجة مزيد من العزلة ، قد تدفع هؤلاء لبناء مدارسهم ، ومستشفياتهم ، وخدماتهم ، ومجتمعاتهم ، كما سيتم العرض لذلك بمزيد من التفصيل في تدوينة قادمة إن شاء الله..كل ذلك كبديل عن مؤسسة الدولة ، مجتمع موازي يعني ، مجتمع موازي سلفي ومجتمع موازي شيعي ومجتمع موازي مش عارف إيه ، والأمثلة في العالم العربي كثيرة..
عندما لا يكون التعايش هدفك الحقيقي ، فإنك بذلك تحرض "طوب الأرض" عليك ، خاصة ذلك النوع الذي يمتلك أفكاراً أكثر تطرفاً ونزعات عنيفة ، ثم تشكو بعد ذلك من اضطهاد المجتمع وتطرف الآخرين ..تيجي إزاي؟
لماذا لا يبتعد هؤلاء عن السياسة وعن ممارستها ، وحتى عن الدعوة والتبشير بمناهجها المذهبية(عملاً بشعار كل واحد ينام ع الجنب اللي يريحه)؟ لماذا لا يبادر هؤلاء إلى التعايش مع بعضهم البعض وغير المنتمين في إطار الدولة واحترام مؤسساتها؟ لماذا لا يترك هؤلاء التلوي الذي انتقدوا جماعات الإسلام السياسي (وهو للأمانة لا يزال موجوداً فيها) فيما يتعلق بعلاقتهم بالدولة ومؤسساتها؟
رأيي الشخصي: صحيح أنه "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" ، لكن هناك شيء اسمه الدولة ، إطار يضمني ويضمك ويضم المسلم مع غير المسلم ، دولة يفترض أن بها "ديمقراطية" تختار بها حاكمك ، وإن تحسن حالها أن تغيره بمن هو أفضل ، قائمة على التعايش بين كل الأفكار والمذاهب ، وتلك الدولة في نفس الوقت لها قوانين ، ونظم ، وآليات يجب احترامها..المسلم داخل الدولة جزء منها متعايش مع غيره فيها ، حتى ولو لم تكن تلك الدولة مسلمة أصلاً .. والله أعلم..
هذه كانت مجرد خاطرة ، وعذراً للإطالة ..