Sunday, March 21, 2010

وبدأ إفساد شيخ الأزهر

قبل العودة مرة أخرى إلى "الآتي بعد".. اسمحوا لي بالتوقف عند موضوع ما ، اسحوا لي بدوركم لي قبل أن أدخل إلى صلبه بملاحظة سريعة عن منصب "شيخ الأزهر" وليس شخص "شيخ الأزهر"..

لفترة طويلة عاش الإسلام بدون وجود جامعة علمية "واضحة" مستقلة تعنى بتدريس العلوم الدينية ، باستثناء المسجد النبوي الذي كان يؤدي ذلك الدور ، قبل ظهور الدور السياسي لـ"العراق" في التاريخ الإسلامي ، وظهور مدارس هنا وهناك .. وقبل ظهور مؤسسات قامت بدور الجامعة كـ"جامع الزيتونة" التي تصنف كأكبر جامعة إسلامية ، ومن بعدها طبعاً الجامع الأزهر.. استفاد الإسلام والعالم الإسلامي بطبيعة الحال من وجود مؤسسات بهذه الضخامة والأهمية ، لكنه لم يخسر -وفي آراء : لم يخسر كثيراً- بغيابها..

قام الأزهر بدور لا ينكره أحد في خدمة الدين الإسلامي واللغة والثقافة العربيتين على مدى ما يزيد على عشرة قرون من الزمان ، ويمكنه -بشروط- أن يلعب دوراً أكبر وأهم هو ومؤسسات أخرى في حماية الاعتدال والوسطية ، وكمؤسسة كبيرة من الطبيعي أن يكون لها قائد وموجه يصوغ سياساتها وطريقة العمل بداخلها وعلاقتها بكل ما يحيطها.. وهو في حالتنا هذه "شيخ الأزهر".. وهو أياً من كان عالم جليل له كل التقدير والاحترام.. لكن..

لكن أن نفاجأ بحملة غريبة للتضخيم من أهمية منصب شيخ الأزهر ، بدأتها الميديا الحكومية على مدى الفترة منذ رحيل شيخ الأزهر قبل أسبوع وحتى ساعة كتابة هذه السطور..كما لو كان الإسلام سيضيع في غيبة الأزهر ، أو في غيبة شيخ الأزهر لأي سبب كان ، ثم حملة للتهليل الهستيري بتعيين شيخ جديد للأزهر كما لو كان الأمر يتعلق بتعيين مدير فني للمنتخب الوطني قبل حقبة "حسن شحاتة" ..فهذه مصيبة بلا مبالغة..

هذا التضخيم والتهليل للكرسي هو أول خطوة يقوم بها أصحاب المصالح هنا وهناك لـ"توجيه" صاحب الكرسي في اتجاه معين ، وبالتالي لإفساده.. تماماً كما يستقبل المدير العام الجديد في أي مصلحة حكومية بقصيدة مدح نفاقية من عينة ما يقدم "ظنانة بيه" - ومن على شاكلته - في قصة "أحمد رجب" "الوزير جاي".. لعبة قديمة جديدة احترفها المنتفعون في كل زمان ومكان في محاولة لاستقطاب كل من يتولى أي منصب..

بل إن تلك الممارسة القميئة تصل إلى قمة فجاجتها عندما نقرأ تصريحاً - إن صح - لأحد شيوخ الطرق الصوفية مستقبلاً الوافد الجديد على مشيخة الأزهر يقول بالحرف الواحد : ووصف بأنه يعد "البابا" لجميع المسلمين وإمام المسلمين أهل السُنة في العالم، الذين يزيد عددهم عن مليار مسلم!

كأننا كلما نتقدم خطوة للأمام نعود ثلاث كيلومترات للخلف..

كأنه هناك من يصر إصراراً لحاجة أو لمصلحة على تجريد الإسلام السني مما قدم من حرية اجتهاد منضبطة ومن عدم التقيد الأعمى بزعامة دينية لا وجود لها في الدين الإسلامي نفسه كتاباً أو سنة .. على من يصور للناس أنهم "تبع شيخ الأزهر" وشيخ الأزهر "تبعنا" وعليه "كل الناس تبعنا".. ألا يتناقض ذلك مع كل ما قالوه وقاله غيرهم عن دور الأزهر وأهميته..

وعندما يكون أي من يتصدى لعمل عام ، أو لمنصب كهذا له احترامه -لا قداسته- منحازاً ، أو يحاول البعض جعله كذلك لفئة ما ، فإنه يكون قد بدأ أول "سكة اللي يروح ما يرجعش".. فهو لا يفترض به أن يعمل لفئة دون الأخرى ، بل يعمل للجميع دون تمييز ، أما أن يحمي مصلحة فئة على حساب الأخرى ، كما تطلب منه تلك الفئة ، أو هذا الحزب ، أو الجماعة ، أو الشلة ، أو الطريقة .. فقل على المنصب ومن يتولاه السلام ورحمة الله وبركاته.. وسترجع السيارة كثيراً إلى الخلف..

Thursday, March 18, 2010

الآتي بعد : صوب زجاجية

نعم.. هناك حساسيات .. منذ زمن بعيد.. وليست وليدة اللحظة..لا يشكك في وجودها منظر لمئذنتي مسجد بجانب برج كنيسة تجاورا من قبيل الصدفة ، ولا مشهد مفتعل لشيخ بجوار قسيس في مؤتمر أو في ندوة أو في مسلسل ، ولا مقالات مدعيي الليبرالية في "روزا" وأخواتها ومزايداتهم وتزيدهم أحياناً.. ولا أي شرح لتاريخ التعايش بين المسلمين والمسيحيين على أرض المحروسة .. ولا أي تذكير بتاريخ التعايش عموماً وبالنماذج الدالة عليه في السيرة النبوية أو في التراث المسيحي أو.. أو..أخدع نفسي وأخدعكم إن لم أقل غير ذلك..

وأخدع نفسي- بالمثل- إن لم أقل أن الحساسيات ستظل قائمة في أي مجتمع به أديان ومذاهب متعددة ، أياً كانت ليبراليته ، وأياً كان تسامحه ، وأياً كان المش عارف إيه .. لسبب بسيط .. وهو أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق عبيده "اسطمبة واحدة".. خلقهم متباينين في كل شيء ، في الشكل ، واللون ، وطريقة التفكير ، وفي الاعتقاد ، بل وفي الإيمان به من عدمه .. والأهم أنه خلق لهم كوكباً واحداً يتعايشون عليه فيما بينهم.. وأن يصرف الجميع أموره على هذا الأساس.. لأنه لا توجد أي قدرة لأي مخلوق على أن يطبع الآخرين بطباعه ولو كانوا من لحمه ودمه..فما بالكم بمن ليسوا كذلك..

وما يعزز ما أقول ببساطة هو أنه وبعيداً عن الإكليشيه الرخم عن بحر التسامح الذي نبلبط فيه منذ سنوات طويلة فإن حالنا أفضل من حال كثيرين في هذا العالم ، فنحن على الأقل نعيش في صوب زجاجية تغلفنا بعيداً عن أعين الناس الوحشين الذين ليسوا مثلنا..رغم أننا عندما نخرج من تلك الصوب إلى الشارع إذ نفاجأ بأنفسنا نحتك ليل نهار بأولئك الوحشين!

هذه الصوبة قد تكون عمارة يسكن كل شققها أصحاب نفس الدين أو المذهب دون غيرهم ، أو عدة عمارات ، أو تجمع عمراني محدود تنطبق عليه نفس الشروط ، يكون ممحوراً حول دار العبادة أحياناً كمركز له ، سواء أكان كنيسةً -بالنسبة للمسيحيين- أو مسجداً يتبع فرقة مذهبية معينة كمساجد السلفيين مثلاً.. وحوله تتوافر مكونات "شبه مجتمع" خاص بتلك المجموعة تشكل "بديلاً خدمياً" لما يقدمه المجتمع المحيط و/أو الدولة.. إشي عيادة على صيدلية على سوبر ماركت على ..على .. على ... .

وكأي "تطور طبيعي" لأي شيء بما فيه الحاجة الساقعة لم يقنع أصحاب الفكر "الصوبي" -مسلمين كانوا أم مسيحيين- بهذا البراح الضيق لصوبتهم العزيزة ، فرأينا أمثلة على أن الصوبة من الممكن أن تكون قرية بكاملها ، كما حدث في "أبو حنس".. صوبة يدافع عنها أصحابها بكل الطرق ، ويستغل "البعض" ذلك ويستثمر فيه سياسياً ليكرس للفكر الصوبي تحت ستار حماية الاستنارة والوحدة الوطنية.. حماية الوحدة الوطنية بحبس المسلمين والأقباط كل في صوبته الزجاجية الخاصة به ، وربما بحبس مجموعات من كل مذهب هنا وهناك في صوب مماثلة.. وسلم لي قوي على التعايش!

ولا يشترط أن تكون الصوبة داخل إطار جغرافي محدد .. بل قد تكون الصوبة داخل الإنسان الواحد الذي يتوهم أنه في المجتمع المحيط خطر داهم عليه وعلى هويته .. فيبدأ في صنع صوبته بالبحث عن نمط معيشي وقيمي خاص به يفصله عمن حوله.. من بدأوا بالبحث عن المظهر الخليجي في بلد يختلف مناخه عن خط الخليج كله ، وعن لكنة يدفسها وسط العامية المصرية التي لم تعد تلائمه من وجهة نظره .. وعلى الجانب الآخر يتسابق من يتسابق على الهجرة إلى أمريكا وكندا ، بل ويعد نفسه وأبنائه لهذا الهدف ويسميهم بأسماء أجنبية بعيدة كل البعد عن الأسماء المسيحية المصرية كي تسهل اندماجهم في مجتمعات المهجر.. وفي الحالتين -هذه أو تلك- لا فرق.. العيش في مجتمع آخر داخل المجتمع أو التعامل مع مجتمعك كدار فناء تستعد فيها لدار البقاء!

لن تفلت بأي حالٍ كان من تأثير الصوبة الزجاجية حتى ولو لم تكن تعيش في واحدة.. فالذي يعيش داخل الصوبة يرى أولاً أنه الأفضل وأنه على حق وأن الآخرين أوغاد ، وأنه يجب عليه أن يحمي نفسه ، وأهله ، وحياته ، من أي تأثير محتمل للأوغاد.. وبالتالي تخيل ما سيحدث لو اضطر "الحلوين" للتعامل مع "الوحشين" تحت سقف عمارة واحدة أو في مكتب واحد في العمل أو في قاعة محاضرات في الجامعة .. مسلمون ومسيحيون ، وأحياناً مسلمون ومسلمون ، ومسيحيون ومسيحيون نراهم يستقبلون بعضهم البعض بابتسامة صفراء مضيضة تعكس اضطرار هذا الشخص للتعامل قسراً مع الشخص الآخر .. مع غمغمة في السر قد لا تجاوز الشفتين بعد انصراف الشخص الآخر تلعن السنين السوداء للجيرة الهباب التي جمعته بالشخص المنصرف ، أو المصلحة الهباب التي جعلته يضطر لمزاملته في العمل أو شراء أي شيء أو خدمة تأتي من وجه ذلك الشخص!

أصحاب الصوب المعقمة وسكانها يحبون أنفسهم لدرجة الأنانية ، لدرجة لا يتسع معها هذا العالم لغيرهم .. وعلى ذلك من الغباء الاعتقاد بأن أي احتكاك بين سكان الصوب وسكان الصوب الأخرى أو غير المعتادين على سكنى الصوب بشكل عام ، من الممكن أن يصل إلى مدى أعلى من التوتر .. ومن العصبية .. ومن التطئيف .. ومن العنف.. وسط تناسٍ تام بأن التعايش الحقيقي يمكنه أن يجنب الجميع ويلات صراعات ومشاكل طائفية يعلم الله وحده نهايتها..

ومن الطبيعي أن من لا يدرك أن التعايش "شيء كويس" لا يملك الاستعداد الكافي لهضم قانونه رغم بساطته .. صحيح أن ردود فعله تجاه "الآخر" قد لا تتسم بالعنف لأسباب لها علاقة بطبيعة المجتمع المصري نفسه ، لكن الرئات التي أدمنت هواء الصوب يصعب عليها تقبل الهواء العادي..

وللحديث بإذن الله تعالى بقية..

Thursday, March 11, 2010

أيضاً.. قبل الآتي بعد..

لا يعني غيابي الطويل والقسري عن عالم التدوين أنني قد نسيت "الآتي بعد".. فقط سأؤجل فتح هذا الملف للتدوينة القادمة مباشرةً بإذن الله .. لأن حدثاً واحداً فرض نفسه .. وكان من الصعب أن يمر على كاتب هذه السطور بلا تعليق..

بدايةً البقاء والدوام لله .. وخالص التعازي في وفاة شيخ الأزهر "محمد سيد طنطاوي" الذي توفي أمس الأربعاء.. والذي أكن له كل التقدير والاحترام رغم "شوارع" الخلاف بيني كشخص عادي وبينه كعالم وكرئيس لجهاز بأهمية "الأزهر" .. والذي اتضح أنه ليس خلافي فقط معه بل خلاف كثيرين .. ولهم مبررهم في ذلك .. عكس ما يهيس به بعض مرتزقي قصائد الرثاء في الميديا.. الذين يتعمدون الخلط بين النقد المغموس بالهوى وبين نظيره المحايد والعقلاني .. بين التشكيك وبين الاختلاف على آراء ومواقف ووجهات نظر لا أعتقد أن منصبه الرفيع يبيح له أو للمذكورين الحجر على حق الآخرين في الاختلاف معها..وعليها..

وما يهمني هنا هو التشديد على أن مهمة من سيخلف الشيخ "طنطاوي" ستكون صعبة .. ليس فقط للظروف التي تمر بها المنطقة العربية ،وعودة الهوس المذهبي من جديد ، ولكن لطبيعة وأهمية دور الأزهر التي يجب أن يعيها من يرأس هذا الصرح الكبير..

يخطئ من يعتقد أن "الأزهر" أو غيره هو المرجعية المسلمين السنة في العالم أجمع .. هو يعد من أكبر وأهم الجامعات الإسلامية في العالم لكنه ليس الوحيد ، ولكن ربما كان ذا طبيعة خاصة لما قدمه من خدمات جليلة في مجال نشر الدين واللغة العربية لا يجحده أحد ..ومن يعتقد أن شيخ الأزهر - أياً كان شخصه وأياً كان مقدار علمه- هو "أكبر عمامة سنية" كما قال "عمرو أديب" مثلاً بالأمس.. طبيعة المذهب السني هو أنه لا تكون هناك عمائم .. طبيعة المذهب السني هي الاستقلال .. ألا يكون الدين حكراً على مذهب بعينه أو تصور بعينه .. وبالتالي فإن دور من سيقود المؤسسة الأزهرية في الفترة القادمة سيكون أولاً في تقديم علماء مجتهدين مستنيرين فاهمين ، وفي تحقيق الاستقلال المذهبي والسياسي للمؤسسة الأزهرية كي تستطيع تقديم علماء مجتهدين مستنيرين وآراء فقهية معتدلة بحق وحقيق بعيداً عن تصورات المستصوفين والمتمسلفين ومن يسمون أنفسهم مفكرين إسلاميين..

ولو استطاع أي من التيارين اللذين يخترقان الأزهر فعلاً السيطرة عليه فإن ذلك يعني أولاً فرض أسلوبه وتصوراته على المؤسسة الأزهرية وطلابها ودعاتها ، واستغلال ذلك في مواجهة "منافسيه" على "الزعامة الدينية" وربما للحجر على أي رأي آخر مخالف له ولقناعاته..

بدون الاستقلال المذهبي يستحيل تحقق الاستقلال السياسي ، ويستحيل ألا نرى الأزهر بتاريخه وحضوره ينحاز لأي نظام أو لأي قوة معارضة له ، خاصةً وأن التيارين المذهبيين إياهما يعرضان من حين لآخر خدماتهما على النظام والتيارات المعارضة له .. والتمذهب الجديد يحب السياسة كما يحب الزبيب المهلبية..

عندما نرى قيادة للأزهر تحقق استقلاله ، وتقوده بسلام بعيداً عن حسابات السياسة وصراع المتمسلفين والطرقيين .. ستعود للأزهر قوته ومهابته .. وسيلعب دوراً أكبر في خدمة هذا الدين ..وتفادي الآتي بعد..دمتم بخير..