Sunday, March 4, 2012

السقف الأخير

إذا كان السقف في اللغة يرمز لما هو "أقصى" فإن سُقُقَاً كثيرة قد تهاوت ، خصوصاً ما كان يتعلق منها بسقف المقبول وسقف المعقول وسقف ما يمكن تحمله ، كالعادة نفاجأ حين يحدث شيء ينبئ بانهيار في سقف ما ، من جملة سُقٌف حياتنا المنهارة ، أو الآخذة في الانهيار ، نفاجأ به كما لو كنا لا نعرفه ، ولا نصدق بإمكانية حدوثه ، وشواهده تتوالى أمام أعيننا ليل نهار ، وننظر إليها في تناحة واذبهلال ، نتصرف معها كأفراد ، ولو بعقولنا ، ولو بقلوبنا وهذا أضعف الإيمان ، بنفس الطرق التي لطالما لمنا عليها حكومات ونظم متعاقبة ، إما ببرود واعتياد "الكلام دة بيحصل في كل حتة" ، أو باستخفاف "مش معقول الكلام دة يحصل في مصر" ، أو بتهوين "مش للدرجة ، الموضوع ما وصلش لدرجة..." .. وتكون النتيجة أن تفاجأ بمصيبة ، عادةً كبيرة ، تتساءل حولها وحول ملابساتها كما لو كنت قد فوجئنا بها ، نسخن لنصل لدرجة الغليان ، ثم نبرد ، ثم نهيئ أنفسنا للاعتياد عليها..

الخبر الذي قرأته قبل ساعات لا يحوي من الجاذبية ما يقيم الدنيا ويقعدها ، ربما لخلوها مما قد يعده البعض "بعداً طائفياً" .. بمعنى أنه "لو اتنين مسلمين ولعوا في بعض مش مشكلة ، لو اتنين مسيحيين ولعوا في بعض مش مشكلة ، إنما لو واحد من هنا وواحد من هنا".. بل غرابة الحادث نفسه بشكل قد يجعله معتاداً في المستقبل ، بل ومقدمة لما هو أسوأ ، لألخص لكم الأمر أولاً ، وهو كفيل بنسف سقف مصطلح "مشكلة/ مش مشكلة" لديكم..

لأول مرة في تاريخ مصر ، وربما في ما أعرفه من تواريخ دول أخرى تصبح فيها دار للعبادة هدفاً للسطو المسلح.. تخيلوا..

نعم ، هاجمت قبل ساعات مجموعة من البلطجية مسجداً في قرية "فيشا الكبرى" بمحافظة المنوفية ، قتلوا اثنين ، أصابوا ثلاثة ، واستولوا على أموال الزكاة ، وطبعاً ، هربوا..

الجريمة ، التي لا وصف لها إلا تلك العبارة ، تمثل سابقة أولى في كل شيء ، صحيح أنه من المتوقع في ظل انتشار موجة التطرف الديني إسلامياً ومسيحياً على السواء صار من المتوقع نظرياً أن يتعرض دار عبادة ، مسيحي أو مسلم ، للهجوم من متطرفين متعصبين ، لكن الجديد أن الهجوم جاء من مجرمين جنائيين ، وشتان ، وهذه هي المفارقة المرعبة والمذهلة ، بين علاقة المتطرف المتعصب بدار العبادة في دينه ، وبين علاقة المجرم الجنائي بنفس المكان ، علماً بأنه في الغالب "ما بيركعهاش".. صحيح أنه من المتوقع أن يهاجم متطرفون دار عبادة دين آخر ، حدثت ، وتحدث ، وربما تتكرر ، لكن الجديد أن الهجوم غالباً جاء من مجرمين ينتمون لنفس الدين ، مسلمون يهاجمون مسجداً على نفس المذهب ولأسباب غير عقائدية ، من المتوقع أن يهاجم سين من الناس دار عبادة لداع ديني أو مذهبي ، لكن الجديد والصادم أن يهاجم ذلك السين داراً للعبادة بغرض السرقة!

نعم ما حدث صادم ، ليس فردياً في اعتقادي ، بل سيكون مقدمة لأشياء أسوأ ، وبمراحل ، وسيكون تمهيداً لسقوط سُقٌف أكثر وأكبر ، لكن..

لكن هل كان ذلك مفاجأة بحق؟ هل كان اعتيادنا للسرقة من المسجد تمهيداً لقبولنا سرقة المسجد نفسه؟ في البداية كانت سرقة الأحذية ، تلتها سرقة مصاحف ، تلتها سرقة ميكروفونات ، تلتها سرقة معدات ، ثم تحولت تلك السرقة من خفة اليد إلى "مرزبة" السلاح ،بالسلاح يا حبيبي بالسلاح مع الاعتذار لـ"عصام الشوالي" .. في البداية "أنا لا ممكن أسرق في رمضان" ثم "أنا ممكن أسرق أي حتة إلا الجامع بيت ربنا" ، إلى ما حدث ، وقريباً ستكون السرقة المسلحة في نهار رمضان.. استنكار في البداية ، تململ بعد ذلك ، ثم اعتياد..

كيف نرى نحن فكرة السقف؟ هل هو السقف الذي يغطيك ويحميك سواء من برد الشتاء أو من قيظ الصيف ، أم السقف الذي يحجب عنك النور والماء والهواء ويحجر على حريتك ويحول بينك وبين كل ما تعتبره "حقك" من مصالح وشهوات وملذات ، المشروع منها وغير المشروع ، القانوني وغير القانوني ، المباح اجتماعياً وغير المباح ، الحلال والحرام ، كيف نرى علاقتنا نحن بالسقف؟ من علاقة حب لهذا السقف ، إلى علاقة اعتياد وتعايش مع وجود سقف ، إلى علاقة ضجر من وجود سقف ، إلى كراهية السقف، إلى علاقة رغبة في كسر السقف، إلى اعتياد (وتبرير) كسر السقف ، إلى البحث عن سقف أعلى لكسره..

ما هو تعريفنا نحن لكلمة "سقف"؟ لفكرة الخط الأحمر في حياتنا ، سواء كان ديناً أو قانوناً أو عادات أو تقاليد أو أعرافاً أو أي شيء آخر..أم "أنا السقف" : الاحتياجات والمطالب والأطماع ، الثروة والسلطة والسلطوت ، وعلى ذلك كلما كان المرء أقوى كلما كان سقفه أكثر مناعة ، كأننا تماماً في غابة برخصة.. أعلى سقف للأسد ، والأرانب "تولع".. "الدنيا دي دنية أسود ، مش دنية أرانب" كما قيلت في "شاهد ما شافش حاجة"..

ما السُقُف أو السقوف لدينا على وجه التحديد؟ أشخاص نظام سياسي أم فكرة النظام ، أشخاص رجال تنفيذ القانون أم فكرة القانون ، أشخاص رجال الدين أم فكرة الدين ، هل تشابهت السُقُف علينا إلى درجة صرنا فيها نتعامل مع الأسرة كسلطة ، ومع القانون كسلطة ، ومع الدولة كسلطة ، وربما ، مع الله عز وجل ، كسلطة ، وما أدراك ما موروث الناس عن السلطة.. وطرق العمل والتعامل معها .. ومهما تعددت السلطة وتنوعت أشكالها فالقاعدة واحدة : كل ما يحول بيني وبين "حقي" أو ما أعتبره كذلك فهو سلطة ، سلطة تستحق التمرد عليها والعصيان بكل الطرق.. حتى ولو لم يكن سلطةً من الأساس..

إن تكسرت كل السُقُف .. فما هو السقف الذي يبقى؟ وإن تم تخطي كل الخطوط الحمراء ، ما هو آخر خط أحمر تحرص على بقائه؟ هل هو "حقك" بالمعنى الفضفاض للكلمة ، والذي تخط حدوده وتحدد معالمه بما يوائم مصلحتك ، "الفلوس دي حقي وح أخدها ولو بالسرقة ، الست دي حقي وح آخدها ولو بالغصب ....الخ".. هذا المعنى الذي ربانا عليه إعلام الحراك السياسي قبل الثورة ، ورسخته بلطجة رأس المال وعربدة ممارسة السياسة التي تختلط أحياناً بالدين وبأشياء أخرى ..من العادي -جداً- أن يتظاهر المرتشي جنباً إلى جنب مع صاحب الحق من أجل طلب فئوي تستغرب أن يطالب به المرتشي ، وأن يعتبر البعض الامتياز حقاً والمكرمة حقاً والحرام أحياناً حقاً..عادي واعتيادي

هل أسهم المناخ العام في كل ما سبق؟ إعلام لا يعرف إلا مصلحته ، يعمل لحساب رجال أعمال وساسة لا يعرفون ، هم الآخرون ، إلا مصلحتهم، ورجال دين تفرغوا لممارسة السياسة وأحياناً للصفقات السياسية والترويج للمرشح العلاني وتقديم خدمات للحزب إياه أو الحركة إياها ، التصوير في الميدان والتسجيل في الفضائية ، والترويج للرئيس الخليفة المنتظر سواء أكان ليبرالي الخلفية أو إسلامي الخلفية، فكل ما يحدث من ترهات لا يشغلهم في شيء رغم أنه يحدث أمام عينيهم وأعينننا ، ولا نأخذ منهم إلا مسكنات "لما ييجي الرئيس كل حاجة حتتصلح" ، "لما حيقيم الرئيس العدل ولا حاجة من دي حتحصل".. (حتى العدل أصبح تعريفه هو الآخر فضفاضاً ونسبياً للغاية).. ولا ننسى الناشطين إياهم الذين كانوا رواداً في أحيان كثيرة في التخلص من أمور لطالما اعتبروها ثوابتاً وسُقُوفاً وخطوطاً حمراء ، يحدثونك عن دولة مدنية ويتحالفون مع رجال دين ومؤسسات دينية ، يتحدثون حسب الطلب عن الانفلات الأمني ، يصعرون خدهم لمن يختلف معهم في رأي أو على مرشح ، ويتعاطفون مع بلطجي وقاطع طريق ، ويضعون تعاريفهم الخاصة لكل شيء ، حسب الطلب -مثلهم مثل الساسة ، ومثل شريحة من رجال الدين-للدولة ، وربما للدين..والأسوأ منهم فريق اعتبر الثورة ctrl+c و ctrl+v .. أشخاص لا قيم ، تمكين لا واقع..

استغربوا كيف شئتم ما قلته واستهجنوه واستسخفوه ، قد أرى في ذلك شيئاً إيجابياً ، على الأقل هناك ما نستهجنه بما أننا مؤخراً اعتدنا على كل شيء ، صداقة مع القبح وحميمية مع "الأباحة" وتعاون مع الفساد وعشرة عمر مع أشياء أخرى كثيرة ، اعتبروا ما قلته تسميعاً لأشياء كتبت عنها سابقاً ، تململوا كيف شئتم ، لكن سيكون عليكم ، وعليّ بالتأكيد كواحد من عامة الناس ، وعلينا جميعاً أن نبحث أولاً عن سقف لم يتم كسره بعد ، ثم عما سنفعله إذا سقط السقف أو أسقطناه ، علماً بأن السقف إذا ما سقط فوق دماغ أحد فقد يقتله..

حد عايز يتقتل؟.. حد له شوق في حاجة ، كما قيلت على لسان "محمود عبد العزيز" في الفيلم الدموي "إبراهيم الأبيض"؟
* الصورة من الموقع وهي صورة "أرشيفية" وليست لما حدث في المنوفية ، لذا لزم التنويه..

4 comments:

Minto said...

سلام

صحيح الامر غريب بدرجة مخيفة جدا فللمرء ميل غريب للتعود على اي شىء وكل شيء..يتعود على الجمال فلا يعود يتذوقه كما قد يتعود على القبح "الجرم" حتى يبدء يستمرؤه

الى اين نحن ذاهبون مع زمن "الثورات"ا

مينتو

قلم جاف said...

المشكلة ليست الثورات ، المشكلة في أن قيادات الثورات تحالفت مع البنية التحتية الاقتصادية والفكرية للفساد بدلاً من أن تعمل على اجتثاثها ، وتصر على بناء مجتمع من أعلى وليس من أسفل ، لتضيع فرصة ذهبية على الناس في أن تشارك في التغيير وتقطف ثماره أو تهيئهم حتى للمشروع السياسي الجديد ، حتى أن بعض القيادات وصل إلى درجة عالية من النفاق يجذب فيها الناس للفعل الثوري بأكثر الدواعي والأسباب فئوية وفردية ، وعندما يتم طرح المطالب الاجتماعية والاقتصادية (ومنها بالتأكيد ما هو فئوي) تفرض عليهم أولويات سياسية لم تكن لتمس حياتهم بشكل مباشر من قريب أو من بعيد وتتناقض مع الدواعي الفئوية التي استخدموها من قبل ..

Minto said...

سلام
نعم المشكل ليس في الثورات كمبدء لكن ما محلها من الاعراب في ضل قياداتها او ممتطيها ان صح التعبير...ا

في انتظار تدوينة حول العبث الاخير من "عملية الانف" مرورا بفياجرا الصهاينة الى المطالبة بقانون يضمن معاشرة الجواري إلى جانب الزوجة

تحياتي
مينتو

قلم جاف said...

قوانين الجواري مجرد "تحشيشة" تتكرر من حين لآخر في بلاد عربية متفرقة وسبق أن قيل مثل هذا الهراء في الكويت ،مجرد بمباية واترمت في الشارع ، الناس حست إن كتر الكلام عن النوع دة من التحشيش حيشهر اللي قالوا الكلام دة ففضلوا يعاقبوهم بالتجاهل..

بأفكر أكتب عن "البلكيمي" وأنفه ، من وجهة نظر مختلفة تماماً ، بالتأكيد لن أبرر فيها ما فعل ، ولكن أتحدث عن الطبيب الغشاش الآخر الذي أفشى سر مريضه.. ثم ننتظر حاكماً صالحاً يقضي على الغش دون أن يفعل الناس أنفسهم شيئاً للقضاء عليه!