Saturday, June 24, 2006

مجتهدون .. خطر على الاجتهاد

عجلت "اسرق حرامي" على العبد لله نية الكتابة عن الاجتهاد وفقه الواقع ، رغم أنني كنت أنتوي الكتابة عن تلك المواضيع الشائكة على هامش شهر رمضان القادم بإذن الله ، وربما نرجع له بحلول ذلك الوقت..

فقصة الجدل الديني العنيف الثائر حول توصيف ما يفعله رجل البر والإحسان والاحتكار الشيخ صالح كامل تحت دائرة الاحتكار من عدمه ، ومواويل أخرى كقوانين نقل الأعضاء ، والحكم الشرعي للمراهنات في كرة القدم ، كلها كافية لفتح الملف من أوله لآخره ، مع الاستعداد لتحمل الصدمات التي يواجهها معظم من يفتحوه ، وكما يقال لنا قبل خلع أي ضرس مزعج ومؤلم : وجع ساعة ولا كل ساعة!

لنرجع للمجتمع الذي بدأت فيه الرسالة قبل أربعة عشر قرناً ، مجتمع بسيط فقير الموارد يتعيش على التجارة ، وعلى زراعة محدودة النطاق ، تحكمه علاقات شديدة البساطة ، قاصر فقط على رقعته المكانية فقط ، قبل دخول مرحلة التوسع والفتوحات في سنوات لاحقة.. قدم الإسلام سلسلة من المطلقات (=جمع مُطْلَق) .. وأنزل القرآن الكريم وظهرت السنة النبوية المطهرة للنص على تلك المطلقات كأصول التوحيد والعبادات وشرح قواعدها شرحاً يساعد على أدائها..

مع الوقت توسعت رقعة المجتمع الإسلامي ، تعددت مصادر الثروة فيه ، واختلط المجتمع الوليد بمجتمعات أخرى فتحها ، تأثر بها إيجاباً وسلباً أيضاً ، وازدادت الحياة نفسها تعقيداً وعلاقاتها تشابكاً ، وظهرت في حياة المسلمين أمور نسبية تختلف من مسلم لآخر باختلاف موقعه أو مهنته .. أمام تلك المستجدات ظهر الاجتهاد .. الذي بني على إيجاد حلول عقلية لمشاكل آنية وربما مستقبلية..

تقدم الزمن ، انغلقت أغلب البلدان العربية والإسلامية تحت الحكم العثماني، ساد الجهل ومعه الخرافة التي تمسحت باسم الدين لأغراض سياسية ، ثم تعرض بعضها (=مصر على سبيل المثال) لصدمة كبيرة من العيار الثقيل من عينة الاحتلال الفرنسي (1799-1801).. فكانت أشبه بدش ينايري مثلج نزل على رأس حبس لمدة عامين في فرن.. احتار الرأس ما بين الجمود الزائد عن الحد وما بين الفوضى .. وتأثر الاجتهاد بدوره بذلك أيما تأثر..

اليوم ، نحن في العام السابع من الألفية الثالثة (=إذا احتسبنا العام 2000 أول أعوامها) .. ولا زلنا نتجادل بعنف حول أحكام الاحتكار ، ونقل الأعضاء ، وفوائد البنوك .. وغيرها .. جدل يوضح لشخص من الناس مثلي مدى العشوائية التي سار بها وصار إليها الاجتهاد .. بشكل يجعل الناس تثق في الجمود وتقتنع به..

الاجتهاد والاستنباط تأثرا بثقافة الحفظ والصم التي حكمت التعليم الديني وغير الديني (بشكل أعنف).. فمن الممكن أن تجد دكتوراً أزهرياً يدرس "الفلسفة الإسلامية" ويطنطن طويلاً عن الاجتهاد وأهمية "تجديد الخطاب الديني" ، ثم تجده يفشل في تكوين تعريف جامع مانع للاحتكار مثلاً.. ويظهر من كلامه عدم الفهم للفروق بين مصطلحات مثل التجريم والتحريم ، وحتى وإن وجدت لها تعريفات في كتب الأصول القديمة فتستشعر أن تلك التعريفات معطلة عن العمل حتى إشعار آخر!

المجتهد حول نفسه إلى مفتي ، لا يقبل المناقشة ولا النقد ، وأصبح ديكتاتوراً أكثر من المشايخ الذين يصمهم بالديكتاتورية وضيق الأفق، وربما يتهمك هو أو بعض الهووليجانز خاصته بأنك جامد رجعي ومتخلف لمجرد أن تسأله كم ثلث الثلاثة ، وطبعاً يتطور الأمر إلى "عركة" على رأي السكندريين تصبح ساحاتها شاشات الفضائيات التي تبحث عن جنازة وتشبع فيها لطماً ، أو الصحف التي أرقام مبيعاتها في النازل وتعرف مدى حب القارئ للجدل الديني وبحثه عن أي شكل من أشكال الجدل.. ضعوا بعين الاعتبار أن الناس بطبيعتها لا تثق في العديد من الفتاوى لأن بعض الفتاوى المعينة تترك انطباعاً على أنها محركة من قبل السلطة لتلبية مصالحها وليس عملاً بصحيح الدين، أمر قديم قدم التاريخ الإسلامي نفسه (تعرفون سبب التنكيل الذي تعرض له الإمام مالك)..بل وتصف شيوخاً بعينهم بأنهم شيوخ السلطة (والحق أن بعضهم يسعى لتأكيد الشبهة عليه أكثر من نفيها!)..

قليلاً ما تشعر أن المجتهد له منهج واضح ، وأنه يفهم روح الفقه الإسلامي نفسه .. أنه يفهم أموراً مثل أنه لا ضرر ولا ضرار ، وأن دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة ، وأن يعترف أصلاً بوجود تخصصات أخرى يجب عليه أن يعرفها وأن يسأل أهل الذكر بها .. فمن أقر المراهنات لم يسأل فيما يبدو أي متخصص في الشأن الرياضي عما يمكن أن تلحقه المراهنات من فساد قد يتسبب في كوارث رياضية كما حدث في دول أوروبية كبرى.. ونسى في الزحام أن دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة..

وغني عن التعريف أن بعض من يسمون أنفسهم بالمجتهدين تربطهم علاقة عداء وتحفز بالنص ، فهو لا يقرأ النص بغرض تحليله وفهمه بقدر ما هو نقده ، ولا ينقد النص بقدر ما يرغب هو في نقضه .. كما حدث في حلقة كوميدية من البيت بيتك عن أحد البهوات الذي يفتي بأن الحج طوال العام ، بقراءة لغوية ساذجة ، وعندما تطرق مناظره أستاذ الفقه بالأزهر لحديث "الحج عرفة" وللسنة في ذلك الشأن عاد ذلك المجتهد ليؤكد أن السنة "ظنية" و.. و... ولا يملك هو ولا غيره أي آلية لفهم النص وظروفه وأسباب نزوله..

العشوائية والعك اللذان سببهما الأدعياء كانت كافية لانتشار الجمود وتعضيده، ولبقاء مطاردة توم وجيري بين المشايخ المتمسكين بحرفية النص وأدعياء الاجتهاد المتمسكين بكاميرات التليفزيون وأعمدة الصحف ، ولبقائنا في المربع رقم واحد إن لم يوجد المربع رقم صفر..ولو أن الساحة الفكرية الإسلامية احتوت على مجتهدين مثقفين فاهمين لاسترحنا قليلاً على الأقل.. حتى لو كانت اجتهاداتهم في الاتجاه الخطأ .. وليس مجموعة من عشاق الفرقعة رافعين شعار (أنا ح أفتي باللي في راسي).. مع الاعتذار لجاد شويري!

6 comments:

Ossama said...

يا صباح الفل يا قلم
كلام مهم جدا ومرتبط اساسا بالموضوع المطروح وهو فقه الواقع
وضرورة الاجتهاد
ولكن ده زيه زي اي حاجة في الوجود له قواعد وشروط واصول
يعني زي ما قلت يا شريف عند الدكتور ياسر بالنسبة للسعودية بتاعة الكورة بامارة ايه يكسبوا وهما الدوري التعبان بتاعهم كله اجانب واللعيب السعودي مدلل مثله مثل اي لاعب عربي
يعني ايه الكلام ده
يعني ببساطة ان الموضوع مش فلوس وصرف وبس
فيه حاجة اسمها اصول وقواعد
وده برضه اللي قلته لحضرتك في موضوع الترجمة
نرجع بقى لموضوع الاجتهاد وفقه الواقع
والعلاقة بين النص او الشرع والمجتمع
يعني ببساطة مجلس الفتوى الاوروبي عمل شغل جميل جدا في الموضوع ده
والدكتور القرضاوي عامل فتاوي مهمة جدا بخصوص الفيزا والكروت الائتمانية في امريكا
ليه الكلام ده؟ عشان فقه الواقع مرتبط ليس فقط بحال المسلم ولكن ايضا بالمجتمع الذي يعيش فيه المسلم
وطبعا الناس دي لما طلعت الفتاوي دي التزمت بالاصول والقواعد
لانهم جد يا معلم قلم
المشكلة حضرتك في كل بيك او هانم مزنوق او مزنوقة في كلمتين فارغين تطلع وتقولك شوية بلاهة وتلاقي في اطار الفضائيات والبلح امهات اللي العرب عايشين فيه مين يقول له او يقول لها يا سلام ايه الدرر دي آعد
يعني برضه نرجع مرجوعنا للسؤال الاصلي بامارة ايه ان احتكار اذاعة المبارايات يعني احتكار الهواء وعلى فكرة ده اسمه القانوني و ترجمة دقيقة للمصطلح الانجليزي
يبقى مشروع؟؟؟
هنا يأتي دور الفقيه الواعي اللي يقدر يطلع ويحلل الموضوع ويكون على معرفة بالعلم الشرعي وايضا على معرفة بفكرة الاحتكار كنظام وقوانين مكافحة الاحتكار الوضعية في مختلف دول العالم و ايضا على دراية بالاعلام وبفكرة البث المباشر وباوضاع المجتمع المصري
وهكذا
ويقول بوضوح ايه الحل؟؟ ويتحمل المسؤولية امام الله سبحانف وتعالى اولا ثم المجتمع
ماشي يا قلم وضحت الفكرة اللي بطرحها في السؤال؟؟
انما انت برضه مجاوبتش على سؤال الحوار بتاع كويلو عاجبك ولا لأ؟ وهو يا آه يا لأ ياعم قلم صباح الفل

قلم جاف said...

ما أثرته عن المجتمع غير المسلم الذي يعيش فيه المسلم أمر بالغ الأهمية والخطورة في ذاته..

كجزء من التطور والتعقيد الذي طرأ بشكل عام على الحياة اقتضت الضرورة أن تعيش جاليات مسلمة من بلدان عربية (جل المسلمين في العالم الغربي عرب وأقليتهم مواطنون من نفس الدول الغربية) في المجتمع الغربي.. وبالتالي يختلف الأمر بعض الشيء عما إذا كانوا يعيشون في مجتمع هم أغلبيته..

ألا يغير ذلك من حسابات من يسمون أنفسهم بالمفكرين الإسلاميين شيئاً؟

قلم جاف said...

شيء آخر بخصوص تعليق لك على "اسرق حرامي":

قلت أن تعريف السرقة مقدم على تعريف السارق .. أذكر أن تعريف السرقة في القانون المصري هو الاستيلاء على مال منقول مملوك للغير بقصد التملك..

أنا بيعنيني هنا بنية التعريف..

تعريفات كتيرة في الشريعة تمت صياغتها واستنتاجها ، وأي س من الناس بيقول إنه مجتهد ومفكر إسلامي ومقطع السمكة وعامل ديلها أنسيال يفترض إنه يفكر في تعريف محدد للسرقة مثلاً أو للاحتكار في ضوء النص بحيث يكون تعريف جامع ومانع يسهل القياس عليه بشكل موضوعي..

لكن إزاي؟.. دة الأسهل ولا إنه يطلع يقول إن مش شرط نصوم لحد الفجر ، وإن ما فيش حاجة اسمها يوم عرفة في الحج ، وغيره من التفتيق في أمور العبادات المحسومة في معظمها منذ أربعة عشر قرناً ، ولما حد يسأله اللي بيعمله الشيخ صالح كامل دة احتكار ولا لأ يتيس ويدي فيها وش اللمبي؟

Ossama said...

والله العظيم يا قلم انت راجل جدع
بس ملاحظة اولى
الاغلبية الساحقة من المسلمين في الدول غير الاسلامية ليست من العرب ولكنها
تركية وكردية و من اهل شبه القارة الهندية اي باكستان والهند وبنجلادش و الملايو او ماليزيا
وبعضهم افارقة والامر يعتمد على البلد ومثلا في كرواتيا نسبة غير هينة من المسلمين تصل الى حوالي 12 من تعداد السكان وهم كروات اوبوشناق

هذا اولا
ثانيا فقه المعاملات يجب ان يضع في اعتباره حالة المجتمع الذي يعيش فيه المسلم
وهذا امر ثابت من فتاوي السلف الصالح
ولا خلاف عليه
وبالتالي قد يكره شيء في بلد ويستحب في بلاد اخرى وهكذا

ثالثا تعريف الشيء مقدم بالتأكيد على تعريف فاعله
فلاوجود لسارق دون سرقة
والمصدر اصل والفاعل مشتق
وهكذا
نعود لموضوع الفتاوى والمفكر الاسلامي
يا عم قلم دي ناس في البطيخ قرا الواحد منهم كلمتين فارغين لواحد برضه كان سامع
كلمتين فارغين وكتبهم
وهكذا وبقت تجارة
بمعنى ظاهرة الدعاة الجدد دي حاجة غريبة جدا هما بيدعو مين بالضبط وبيدعو لايه بالضبط؟؟
يعني دعوة المسلمين للاسلام مش غريبة شوية؟ وبعدين لو واحد قال دعوة للناس ترجع لدينها يا سيدي على اساس ايه انت شايف نفسك تعرف في دينك احسن منهم؟
فبصراحة اختلط الحابل بالنابل وبقى الموضوع سلاطة وتهريج
بس سيبك انت
انت راجل جدع
والحوار معاك لطيف واتمنى يكون مفيد ليك زي ماهو مفيد ليّ
تحياتي ياشريف

ibn_abdel_aziz said...

موضوع رائع تاني

بالتاكيد الحكم العثماني بلاويه متلتلة
بغض النظر عن انجازات حضارية ان جاز تسميتها بذلك

بس تاثير السلطان التركي علي الفقه وتطوره مصيبة بمقاييس كثيرة

الدكتور القرضاوي بيحاول يا اسامة
بس لما بيخش في السياسة بيعك

ويطلع فتاوي عامة مجملة ولان معاه فلوس بيسخر كام منبر اعلامي ويتحول رايه الفردي في قضية سياسية ما الي راي الاسلام
وتلاقي شباب الاخوان مثلا تبنوا الراي وتحول الي راي " الامة " بقدرة قادر

انا بحب القرضاوي
وبتابع فتاويه واحكامه
بس بتضايق من فكرة سيطرة الفتوي علي الراي العام بشكل عام
انا حتي مش عاجبني فكرة المجلس الاعلي للفتوي في اي مكان لانه بيتحول لكنيسة كاثوليكية مع الوقت
ويتحول لسلطان علي الدين بشكل مقرف

قلم جاف said...

أولاً .. حدث كبير بالنسبة لي وأنا المستجد نسبياً في الكار التدويني أن يحل ابن عبد العزيز ضيفاً على مدونتي "الدين والديناميت" و"فرجة".. خطوة عزيزة وأرجو تكرارها باستمرار بإذن الله..

ثانياً.. أثرت نقاط في منتهى الأهمية والخطورة من بينها انسياق الناس بالجملة وراء رأي أو فتوى رجل أو منظمة واحدة .. حتى مع العلم بأن حيثية الرجل الواحد مصدر الفتوى أو الأمر أو أيا كان محل شك ، سواء أكان المرشد في الإخوان أو شيوخ الطرق عند الصوفية أو الملالي عند الشيعة أو شيوخ السعودية في المذهب السني ..

عقلية القطيع بعيد عنك .. القطيع اللي بيحتاج للي بيديره وبيحركه ، كما لو كنا شوية حمير وعايزين عربجي يحركنا..

الأخطر واللي اتبح فيه صوتي أكذوبة الزعامة الدينية في الإسلام .. الوضع اللي احنا فيه وسيطرة الفتوى وسطوتها ووجود تنافس مسعور بين الملالي وشيوخ الطرق وشيوخ السعودية ومفتيي جماعات الإسلام السياسي والمؤسسات الدينية الرسمية على البابوية الإسلامية..

بل إن اللي عايشين في دور البابوات أخطر على العالم الإسلامي من جماعات الإسلام السياسي ، في حاجتين :

1-الأولى إن جماعات الإسلام السياسي عايزة تحكم ، ديتها معروفة مهما حاولت تستخبى ورا أقنعة ، أما حبابيبنا الحلوين عايزين يسيطروا على المؤسسة الدينية في كل بلد بحثاً عن نفوذ ديني يفوق في خطورته النفوذ السياسي..

2-ثانياً .. حتى المتطرفين جداً في جماعات الإسلام السياسي عندهم شيء من المرونة في مراجعة أفكارهم (حتى وإن كنت بأشك في مراجعات الجماعات في السجون) .. أما دول .. لا وألف لا .. إلا البابوية يا سيدي!.. هل شيخ الطرق الصوفية حيقبل إنه يشيل عن نفسه المرجعية اللي يأمر بيها سبع ملايين صوفي يصوتوا لطويل العمر يطول عمره وينصره على مين يعاديه؟.. هل الملالي وغيرهم حيقبلوا يعملوا كدة ..

احنا بنتكلم إذن في أكذوبة الزعامة الدينية في الإسلام ، قبل ما تبطح الطوبة المعطوبة ونبص نلاقي مجتمعاتنا بتعيش كوارث بالجملة والقطاعي وساعتها نقول يا ريت اللي جرى ما كان!