Sunday, July 8, 2012

إقحام الأنبياء في معارك الهواء

ولا زلنا مع معارك الهواء..

في فترة من الفترات أثير موضوع رفض ظهور الأنبياء في الأعمال الفنية الدرامية من قبل صناع أفلام ونقاد ذوي ميول عالمانية متباينة في درجة تشددها (هناك عالمانية متشددة كما أن هناك تدين متشدد.. للتذكير فقط) ، وكان برنامج "زووم" - لمن لا يزال يتذكره - مسرحاً لتلك النقاشات على مدى أسابيع ، كانت شبه موجهة - هذا رأيي الشخصي - لفكرة أنه "لا داعي" لـ"رفض" ظهور الأنبياء - عليهم جميعاً الصلاة والسلام - وآل البيت النبوي رضوان الله عليهم على الشاشة ، وأن حركة الفتاوى يجب أن تكون "أكثر مرونة" و "أقل تشدداً" في هذا الصدد .. لم تكن أحداث 11 سبتمبر قد وقعت بعد.. كي يضاف إلى الحج "توصيل صورة الإسلام المعتدل السمح المستنير إلى جمييييع أنحاء العالم" و ..و... رغم أن هناك فتاوى أزهرية لعلماء أزهريين كبار ، ولها أسانيدها بالتأكيد فقهياً ومنطقياً..

ومع ظهور هوجة الدراما الإيرانية المدبلجة عاد الموضوع للواجهة من جديد .. خاصةً عندما عرضت بعض الفضائيات المصرية ، ومن بينها "ميلودي دراما" في العام 2010 مسلسل "يوسف الصديق" الذي ظهر فيه ممثل يقوم بدور سيدنا يوسف عليه السلام ، والتي تمسكت بموقفها رغم الرفض العنيف للمؤسسة الأزهرية ولقطاع كبير من الناس ، ولم يخل بالتأكيد الملف الذي عرضته مجلة "الوعي الإسلامي" عدد أبريل نفس العام ، والذي سبق تناوله هنا بشكل ضمني في وقته من عرض الفتاوى السنية والشيعية في تلك المسألة..

وعن نفسي ، رافض لفكرة ظهور الأنبياء على الشاشة جملة وتفصيلاً ولي تحفظات على ظهور أفلام تتناول سيرتهم ، ولي في ذلك أسباب من وجهة نظر متفرج عادي جداً..

1-أولها ببساطة اقتناعي ، واقتناع أعداد كبيرة من الناس بمن فيهم عالمانيون كثر ، بأن للأنبياء وضع خاص جداً في الإسلام يختلف عنه في أي ديانة أخرى ، المسلم العادي يؤمن بكل الأنبياء والمرسلين ولا يفرق بينهم ، ويعتبر أن قصصهم الواردة في الكتب السماوية وآخرها القرآن الكريم تاريخ ديني ، نوع خاص من التاريخ لا يحتمل التأويل ولا عرض وجهات النظر الشخصية فيه ، نؤمن به لأنه دين ، هناك فرق بين أن يكتب "س" عن شخصية تاريخية مثل "جمال عبد الناصر" من وجهة نظره الشخصية جداً فيه وفي الناصرية إيجاباً أو سلباً ، لأنه يبقى شخصاً عادياً مهما كان له أو عليه ، مهما نجح ومهما أخفق، ولا يحظى بالاستثنائية التي يحظى بها الأنبياء ، أما الأنبياء فهم محركون بوحي من الله عز وجل ، ولهم صفات نقر بها كمسلمون لأنها في صلب عقيدتنا.. من العادي جداً أن تكون لهم - عليهم الصلاة والسلام - تلك القدسية في مجتمعاتنا على العكس من مجتمعات أخرى ترى الموضوع بشكل آخر.. تلك القدسية التي أراها لا تعيبنا في أي شيء .. عكس ما قد يعتقد البعض..

بالتالي هناك "مسافة" بيني كشخص متفرج على عمل فني وبين شخصية أي نبي حتى وأنا أتخيلها ، وعادةً الشخص "العادي" - عاماً كان أو غير عام- الذي توجد بينك وبينه مسافة سببها أنك تقدره وتجله وتحترمه لا تراه كثيراً جداً طول الوقت ، مهيب فلا تستطيع - كشخص لم يعاصره على الأقل- أن تنظر في وجهه ، خصوصية المسافة بيني وبين النبي المرسل لا تجعلني كشخص من عامة الناس أقبل فكرة تخيله في صورة شخص أعرفه أو لا أعرفه (=الممثل الذي يقوم بدوره حتى لو كان يمثل للمرة الأولى والأخيرة في حياته)، فما بالكم لو كان ذلك في صورة شخص لي معه "سوابق" ، كأن يسند دوره إلى ممثل كوميدي أو ممثل يذكر بأدوار الشر ، أو أراه في صورة أكثر من شخص ، باعتبار أنه يوجد أكثر من مسلسل يتناول حياة نفس النبي.. ألا يُخشى من ذلك أن يؤثر على صورة الأنبياء لدى مجتمع يفترض أنه غير ملحد وغير منحل؟

2-أحيلكم إلى ما ذكره الكاتب والروائي الراحل "عبد الحميد جودة السحار" في مقاله بمجلة "الهلال" عام 1970.. وهو مهم للغاية :

تختلف القصة في القرآن عنها في التوراة اختلافًا كبيرًا .. فالتوراة تسرد في تفاصيل وتتابع قصص الأنبياء ودور المرأة في حياتهم والصراع بين قوى الخير والشر، وقصة كل نبي تبدأ غالبًا بمولده وتنتهي بوفاته وتروي ما كان من أحداث بين البداية والنهاية، ولما كانت تلك القصص تهتم برواية أفعال الأنبياء فقد أطلق على أسفار العهد القديم أسماء الأنبياء أو من قاموا بخدمات جليلة لإسرائيل مثل إستير ونحميًا ودانيال. أما القصة في القرآن فلا تقصد لذاتها بل للعبرة، لذلك لا توجد في القرآن الكريم قصة نبي كاملة في سورة واحدة إلا قصة يوسف عليه السلام.

ولذلك السبب لم تأتي قصة سيدنا يوسف عليه السلام مفصلة ، ولم يحتوي القصص القرآني على تفاصيل ، منها اسم الفرعون الذي كان يحكم مصر في فترة سيدنا موسى عليه السلام ، ونظيره الذي كان يحكمها وقت ظهور سيدنا يوسف عليه السلام ، واسم السجينين اللذين كانا مع سيدنا يوسف عليه السلام في السجن وفسر لهما رؤياهما ، وأسماء أشقاء سيدنا يوسف عليه السلام .. الغرض هو العظة والعبرة فقط لا أكثر.. تظهر بوضوح حين نقرأها لا حين نشاهدها في عمل فني درامي..

الدراما يا سادة لعبة التفاصيل ، يجب أن يكون لديك تفاصيل ليكون لديك عمل درامي جيد ، أسماء وعلاقات وحقب زمنية يبني عليها المخرج ديكوراته وأكسسواراته ، وفي القصص القرآني لا توجد تفاصيل ، ولكي تقدم عملاً به تفاصيل عليك البحث في مصادر أخرى ، وقد تعلق قدماك في الإسرائيليات وتسقط في بحر غميق من الأخطاء والمغالطات ، قد تتسع طبعاً إذا ما أردت أن تضيف من خيالك بعض التفاصيل الأخرى بما أن كل المصادر لا تكفي، قد تجعل من عملك الفني مهزلة فنية وتاريخية متكاملة ، هذا لو اعتبرنا حسابات مجموعة المؤلفين والمخرجين من عينة "دة فن يا بيه مش دين"..

3-التطور الحالي للفن وفلسفته ،وخصوصاً بما يتعلق بالدراما ، أدعى لأن يصبح تجسيد الأنبياء درامياً مرفوضاً أكثر من أي وقت مضى ، انتهى في الدراما زمن "تقديس النص" ، أصبح الكاتب الآن أكثر حرية من أن يتم سجنه في نص وحبسه في كلماته وضمن حدوده ، بمعنى أن أي نص يؤخذ عنه سيناريو لفيلم أو مسلسل لا يقدم كما هو من الألف إلى الياء بشكل حرفي ، بل يخضع لمعالجة وتحوير تخضع لرؤية كاتب السيناريو أو المؤلف حتى لو تضارب ذلك مع النص وروحه ، لا تستغرب إذا ما رأيت يوماً ما مسرحية "شكسبير" الشهيرة "هاملت" في فيلم فارس كوميدي أو كوميديا موسيقية ، مع الوقت بدأ الكتاب يتعاملون مع "النص الديني" نفس معاملة "النص الأدبي"(1)(2) ، ومع الوقت ، وكرد فعل طبيعي للتسيس والتطرف والتمذهب في بلداننا بدأت نزعة مشابهة في الظهور ، قد يقبل ذلك مع النصوص الأدبية التي لا قداسة لها فعلاً على أرض الواقع ، لكن مع نصوص ذات طبيعة مختلفة ، يبدو ذلك مستحيل القبول..

ومع إمكانية عدم الإبقاء على النص الديني كما هو عليه يبقى هناك احتمالان أحلاهما مر .. الأول أن يشطح أحد السادة الكتاب بشكل يعكس رؤيته هو ويتضارب كليةً مع ما جاء في "النص الديني" ، كأن يغير - مثلاً - في نهاية مسلسله وفيلمه الذي يتناول فيه أحد قصص الأنبياء على العكس مما هو مذكور في القرآن الكريم ، فقط كرؤية فنية .. وفي هذه الحالة لن يكون مجتمعنا ولا مجتمعات كثيرة في العالم "منشكحة" حين تفاجأ بذلك ، والاحتمال الثاني والأسوأ أن يتم العبث بغرض الدعاية السياسية والمذهبية ، وهذه مصيبة سوداء ، خاصةً وأننا في مصر فعلناها مع "ألمظ وعبده الحامولي" قبل ما يقرب من نصف قرن من أن يقدم لنا "محفوظ عبد الرحمن" في "بوابة الحلواني" قصة مغايرة تماماً ، وما قد فُعِل بالأمس مع التاريخ ، قد يفعل اليوم مع أشياء أخرى..

4-لأي عمل فني في العالم هدف ، هذا ما أعرفه ، حتى لو كان هذا الهدف هو مجرد التسلية ، ومع هذا النوع الاستثنائي من القصص ، والذي يحظى مصدره الوحيد بقدسية خاصة جداً - يبقى هناك هدف واحد فقط ، ألا وهو السرد الدقيق في ضوء النص الديني بغرض الوعظ ، فقط ، عكس المسلسلات المأخوذة مثلاً عن نص أدبي يقبل المعالجة والتحوير والإعداد والتمصير وغيره ، هل يخدم ظهور الأنبياء على الشاشة هذا الغرض؟ لا بالنسخ والرقعة والثلث..

لا يوجد أي مبرر من أي نوع فنياً ولا تاريخياً ولا وعظياً ولا .. ولا .. من ظهور الأنبياء على الشاشة ، وظهور ممثل في دور سيدنا يوسف عليه السلام في المسلسل الإيراني أضر بصورة القصة لدينا وحولها من صورتها التي نعرفها عليه إلى عمل اجتماعي متواضع المستوى..

مرة أخرى ، رافضو ظهور الأنبياء على الشاشة ليسوا من المتشددين المتطرفين الذين يعتبرون الفنون كلها حراماً على إطلاقها كما يتصور بعض الأتاتورك ، من بين هؤلاء الرافضين السيناريست الكبير "وحيد حامد" حين انتقد وبشدة محاولات إيران تقديم فيلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأسباب يدخل فيها بعض ما سبق ذكره من نقاط أرجو أن أكون قد أحسنت توضيحها..

باختصار شديد .. تحسين صورة الإسلام يأتي بألف صورة وصورة ، ليس من بينها إظهار الأنبياء على الشاشة لغرض سياسي أو دعائي أياً كان ، وعلى السادة "المبدعين" إن أرادوا الدخول في معارك هواء ، أن ينتقوا معارك حقيقية تستأهل الانتباه والنقاش حولها بحق وحقيق..

كل الشكر للزميل طارق سعد الدين الذي كتب تدوينةً هامةً للغاية كانت مصدراً مهماً لمعلومات كثيرة استرشد بها كاتب السطور حين كتابته لتلك التدوينة..
17-7-2012: ولو أن ذلك يعد مخالفة صارخة لقواعد التدوين ، إلا أنه جاءتني فكرة الفقرة الثالثة بالأمس أثناء مشاهدة حوار على القناة الأولى للتليفزيون الرسمي حول تلك المسألة مع الناقد السينمائي الشهير "رفيق الصبان" .. وفكرة تلك الفقرة أخطر من أن تضاف كتحديث تحت تلك الخانة ، لذا أستميحكم عذراً في أن أضمنها للتدوينة الأصلية..
(1)...ونذكر بأن الفرق كبير بين أن يتم تقديم قصة النبي أو المرسل (عليه الصلاة والسلام) بشكل تاريخي ويتم تحريفها لغرض فني أو دعائي ، وبين أن يستوحي الكاتب من القصة تيمة أو خط يتم تقديمه بشكل فني بعيد عن القصة الأصلية كما يحدث مثلاً مع تيمة الكراهية بين الإخوة غير الأشقاء (الموجود أثرها في قصة سيدنا "يوسف" عليه السلام) في أكثر من عمل فني.. أرى والله أعلم أن الأمر الثاني مقبول ، أما الأول فأعتبره جريمة..
(2) في العام 2008 أثير في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أستراليا جدل عنيف حول محاولة لتقديم أحد قصص الإنجيل في مسرحية تحمل عنوان "عيد الجسد" للكاتب الأمريكي الشهير "تيرنس ماكنيللي" قيل فيها أن ذلك الأخير قام بمعالجة القصة نفسها بشكل "عصري" وتقديم أبطالها في الزمن الحالي بمن فيهم السيد المسيح عليه السلام بشكل "مشين أخلاقياً"..

No comments: