Monday, July 2, 2012

هل الفن عالماني؟

ترسخ لدينا هذا الإحساس بما أن أغلب العاملين في المجال الفني في بلد كبلدنا على سبيل المثال عالمانيون ، يتباينون فيما بينهم في مفهوم العالمانية بالنسبة لهم ما بين عالمانية تكتفي بفصل الدين عن العملية السياسية ، أو بعالمانية شاملة تفصل الدين عن الحياة (="الكمالية" نسبة إلى "أتاتورك")..وربما يكون فيهم من يصنف كمحافظين كأغلبية الشعب المصري مسلميه ومسيحييه ، وفضلاً عن هؤلاء يوجد ليبراليون (برضه بدرجات متفاوتة) ، ويساريون وناصريون يتبنون تصورات أكثر "تحرراً" من تلك التي يتبناها أغلب المحافظين في مصر ...أي أنه يمكننا أن نتحدث عن تواجد ضخم وطاغي ومستبد- بصراحة - لليسار في الساحة الفنية المصرية ، يليه بعض الناصريين ، ودخل على الخط بعض الليبراليين (المؤمنين أيضاً برأسمالية السوق والقادمين من وسط اجتماعي ارتبط بالثقافة الغربية) الذين ظهروا في أعقاب الحراك السياسي (2005-2011 واستمر بعد الثورة) ، أما الإسلاميين فحاشى وكلا ، اختاروا الابتعاد بالكامل عن العملية الفنية بمحض إرادتهم ، وتفرغوا لإدانتها ومواجهتها ومحاربتها وهم في نفس الوقت أشد النادمين على عزلتهم عنها بما أنها أفقدتهم سلاحاً دعائياً قوياً أحسن الآخرون استغلاله..

إذا استبعدنا الإسلاميين ، يجمع هؤلاء - أو لنقل الأغلبية الحسابية منهم - قاسم مشترك مهم ، ألا وهو أن لديهم سقفاً أعلى من الحريات ، ليس فقط من ذلك الموجود لدى "المتشدد" أو "المتطرف" بل حتى لدى الشخص المحافظ العادي ، ويرون أنه يجب أن تتوافر للفن حرية مطلقة دون أن يعوقه أي (مما يعتبرونه) تابو بما فيه السلطة ، الثقافة العامة ، العادات والتقاليد ، وبالتأكيد الدين.. كما يرون أن أي عمل فني لا يجب أن يتم تقييمه بمعايير "غير فنية" ، أو يتم الحكم أخلاقياً (ودينياً بالتأكيد) على قصته وتنفيذه وشخصياته فيما يبقى كل ذلك "خيالاً صرفاً".. ولا يحق - ما زال الكلام لهم - لأي جهة كانت ، بما فيها "الجهات الدينية" أن تصدر أحكاماً من أي نوع على أي عمل فني كان..

أضف بالتالي تأثر الفن لديهم بالنموذج الغربي ، والنموذج الثقافي الغربي تبنى العالمانية لأسباب تتعلق بالقرون الوسطى والتمرد على سيادة رجال الدين وتدخلهم في كل كل شيء ، وبالفعل نجح في بناء دول منفصلة في بنائها السياسي عن العامل الديني (وإن كانت قد فشلت باقتدار في فصله بالكلية عن السياسة)..

كل ذلك ساعد على تسويق الصورة العالمانية للفن ، وهي صورة يميزها شيء واحد فقط وهي أنها مجافية تماماً للحقيقة والمنطق!

يقول التاريخ أن كل أشكال الفنون من دراما وموسيقى في بداياتها ارتبطت بشكل أو بآخر بالدين ، سواء ديانات العالم القديم (كما حدث مع الإغريق والرومان حيث جاءت في صورتها البدائية محاكاةً لأنشطة بشرية منها الطقوس الدينية) أو الديانات السماوية السابقة على الإسلام (دراما العصور الوسطى في أوروبا والموسيقى الكنسية)..

اختلفت القصة تماماً بالنسبة للإسلام ، الذي ، كما سيتقدم ، لم يربط بين الفن والطقوس الدينية بشكل عام ، ولم يفرض فيه العلماء والأئمة لقرون طويلة تصوراً دينياً واضحاً يلزم فيه المشتغلين بالفن والأدب باتباعه وإلا ، أو بمعنى أصح وكما سنرى في تدوينة قادمة بإذن الله : الفن في التصور الإسلامي مبني على (لا تفعل) وليس (افعل) ، أي أنك حر في أن تفعل ما تشاء ولكن بعيداً عن مناطق بعينها .. بما أنه - كما يرى "محمد علي قطب" - يعكس "نظرة الإنسان المسلم للحياة" .. كما قال معرفاً "الفن الإسلامي" : "هو الفن الذي يرسم صورة الوجود من زاوية التصور الإسلامي لهذا الوجود . وهو التعبير الجميل عن الكون والحياة والإنسان من خلال تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان ".. وأعطت للفنان مساحة من الحرية يتحرك فيها بعيداً عن أي توجيه ، فقط لا يقرب المناطق الحمراء .. لم نسمع عن محاذير كثيرة فرضها العلماء على ما وصلنا من زخارف وصلتنا عن طريق الكتب أو شاهدناها في المباني على سبيل المثال (1)..

مع الوقت ، وفي غياب الإلزام ، أقله قبل توحش الصراع على الزعامة الدينية ، تأثر الفن بالدين ، ليس كمحدد لمسار الفن حتى لو بتحديد ما لا يجب (2)(3)، ولكن كمكون ثقافي شديد الأهمية في حياتنا ، وبالأخص في بلد كمصر وبطبيعتها ، وظهر ذلك حتى مع ظهور الفنون الجماهيرية التي تعلمناها من اتصالنا الثقافي مع الغرب كالمسرح والسينما والدراما التليفزيونية.. وكوسيلة لتوصيل رسالة ما إلى عموم الجمهور..

ثم تطور الأمر إلى عملية تجارية وإتجارية ، سواء هنا أو في الخارج ، حيث أنه رغم العالمانية التي تهيمن على الثقافة الغربية بشكل عام ، لم يغب الدين مثلاً عن السينما أكثر الفنون جماهيرية تقريباً ، لكسب الجماهير ، أو لتوصيل رسالة من نوع ما للجمهور داخل البلد وخارجها ، استغلت "هوليوود" رواية "لويس والاس" "قصة السيد المسيح" (1880) لتقدم فيلم "بن هور" (1959).. قبلها بثلاث سنوات قدمت "الوصايا العشر" للمرة الثانية في فيلم أخرجه "سيسيل دي ميل" (4).. مع الوقت ، ومع استفحال النفوذ الصهيوني في "هوليوود" بدأ الترويج لأفكار الصهيونية عن طريق إشارات دينية في أفلام غير تاريخية ، ومنها أفلام حركة ودراما حققت نجاحاً كبيراً في جميع أنحاء العالم ، ونشاهدها بكل تناحة دون أن نفكر في كثير مما تحوي من إشارات ، من أشهرها "أرمجدون" (1998) (وقليل من التوضيح يوصل الفكرة أكثر) ، "Star Gate" (1994).. (وهو لعب مبتذل على الدعاية الصهيونية أيضاً).. وكل تلك الأفلام حققت إيرادات كبيرة داخل الولايات المتحدة وخارجها..

ولا تخل أفلام أخرى من آثار دينية ، حتى ما كان منها بعيداً عن أفلام الدعاية الصهيونية وأرض الميعاد وشعب الله المختار ، أفلام مصاصي الدماء على سبيل المثال ، الذين يقتلون - دائماً- بـ"الصليب".. (5)..بل إن بعض الأفلام والمسلسلات تعتمد على إفيهات كوميدية "دينية" ، بل في بعض الأحيان تبني على قصص دينية أفلاماً ومسلسلات ، كما في مسلسل "الله والشيطان وبوب" الذي أثار غضباً عنيفاً في الولايات المتحدة الأمريكية من الكل ، مسلمين ، ومسيحيين ، ويهود!

تأثر الفنون الجماهيرية لدينا بالدين كان كبيراً أيضاً ، كان غير مباشر في الموسيقى والغناء حيث أن كثيراً من الرعيل الأول من الملحنين والمطربين المصريين كانت لهم علاقة بالأزهر وحمل بعضهم لقب "شيخ" كـ"الشيخ سلامة حجازي" و "الشيخ أبو العلا محمد" و"الشيخ سيد درويش" و"الشيخ زكريا أحمد" ومن بعدهم بفترة طويلة "الشيخ إمام عيسى" - رفيق كفاح "أحمد فؤاد نجم" ، وتأثروا جميعاً هم وغيرهم بترتيل القرآن الكريم وبالابتهالات والتواشيح الدينية .. التي كانت رافداً مهماً في تطور الموسيقى في مصر..

ولم تبتعد السينما كثيراً عن التأثير الديني .. كان الفيلم "الديني" الصرف فرصة لتقديم أعمال سينمائية تاريخية ، كتلك التي استوحيت من مؤلفات "أحمد أمين" كـ"فجر الإسلام" الذي أخرجه "صلاح أبو سيف" (1971) والذي احتوى قيمة فكرية وفنية أيضاً ، شأنه كشأن ما أنتجه لاحقاً السوري الراحل الكبير "مصطفى العقاد" في فيلم "الرسالة" ، كما تناولت أفلام أخرى حياة أشخاص ارتبطت حياتهم بالرسول صلى الله عليه وسلم ، كـ "بلال مؤذن الرسول" الذي أخرجه "أحمد الطوخي" (1953) ، ثم "الشيماء" الذي أخرجه "حسام الدين مصطفى" (1972).. هذا لا يمنع أن أفلاماً دينية "غير مباشرة" تناولت قيماً دينية سبقت ربما معظم الأفلام الدينية التاريخية عندنا زمناً ، وتعددت دوافعها ما بين توصيل قيم إيجابية للمجتمع ، وما بين الحس التجاري وكسب السوق المتدين ، بل أضاف إليها النقاد "الناصريون" بعداً سياسياً رابطين بين بعض تلك الأفلام في السبعينيات وبين تقرب "السادات" من الإسلاميين ، لكن ذلك لم يفسر ظهور أفلام ذات أسماء ذات أصل ديني مثل "إن ربك لبالمرصاد" في الثمانينيات ، التي شهدت أيضاً فيلماً هاماً جداً هو "العار" (1985) ..

أعتذر لك بالتأكيد عن هذا الفاصل الطويل من "الدَّش" الذي كان الغرض منه توصيل فكرة واحدة فقط .. إن كان هناك من مستحيل رابع في هذه الدنيا ، فهو أن ينفصل أي شيء في حياتنا عن الدين والسياسة ، الدين كان ، وما زال ، وسيظل مرتبطاً بمناحي حياتنا بشكل أو بآخر ، ومن الفروق الهامة بين الإسلاميين والليبراليين واليساريين والاشتراكيين وحتى عامة الناس هو فهمهم لعلاقة الدين بكل شيء ، السياسة والاقتصاد والرياضة وحتى الفن.. عذراً لشدة الإطالة..
(1)..أما الموسيقى فكان وضعها مختلفاً ، فبرغم أنها لم تقابل بمقاومة "ضخمة" إلا أنها ارتبطت لفترات طويلة برغد العيش والرفاهة والاهتمام الزائد بالدنيا ، ووصلت إلى بيوت الخلفاء أنفسهم في العصرين الأموي والعباسي الأول ، على العكس من طبيعة الكثير من سكان البلاد الذين لم يكونوا قد اختلطوا - بعد - بسكان "الأمصار المفتوحة" كالمستعمرات الفارسية والرومانية السابقة ، وبالتالي اصطدمت بآراء الكثير من العلماء الذين ذهب بعضهم إلى تحريمها (رغم أن بعض الموسيقيين كـ"زرياب" كان مقرباً من بيت الخلافة) ، وارتبطت في بعض الفترات بالانحلال ، أقله ما يبين كتاب "الأغاني" لـ"أبي الفرج الأصبهاني" رغم وجود علامات استفهام كبيرة جداً على مروياته ، "الانحلال" الذي قابلته حركات زهد أكثر تشدداً..
(2) ...هذا لا يمنع أن رجال الدين والمحسوبين على تيارات دينية يحددون في بعض الحالات ما يجب ولا يجب في المسألة الدينية وبشكل مختلف ، بالضغط القضائي والحقوقي والجماهيري والإعلامي، فكما حدث من بعض المحسوبين على التيارات الدينية الإسلامية في حربهم مع "عادل إمام" وحصولهم على أحكام ضده بتهمة "ازدراء الأديان" (بسبب انتقاده لتلك التيارات كما يرون) بشكل قد يجعل صناع الأفلام في المستقبل أكثر حساسية في تناول أمور بعينها تخص تلك التيارات ، كان لبعض المحسوبين على تيارات مسيحية متطرفة دور في معركة "بحب السيما" والتي وصلت إلى القضاء ، حتى وإن خاضوها تحت ستار منظمات مجتمع مدني..من حق رجل الدين أن يكون له بالتأكيد رأي شخصي في أي فيلم ، أو أن يقيم الفيلم من وجهة نظر دينية ، لكن ألا يستغل الأمر في مزايدة فكرية أو سياسية كما سترون فيما بعد..
(3) ...والمضحك أن العديد من الفنانين الليبراليين الذين يرفضون أي تدخل "ديني" في الفن سواء بالرقابة أو بالتحديد و/أو تطبيق أي معيار ديني أو أخلاقي في نقد الأفلام (لأنهم يرون أن لـ"الإبداع" معايير تختلف عن معايير الدين) لا يضيقون ذرعاً بتكريم المركز الكاثوليكي لأفلام سينمائية وصناعها لتقديمها "قيماً أخلاقية"..ولا باعتباره الجهة الوحيدة - وصححوني إن أخطأت - التي ترشح الأفلام المصرية للتنافس على مقعد الفيلم الأجنبي في جوائز الأوسكار!
(4) ...ويقول الناقد السينمائي "أحمد رأفت بهجت" أن "الوصايا العشر" قد عرض في مصر .. ربما لديه أدلته ، لكن الفيلم لا يعرض في أي قناة عربية أو مصرية لتجسيده سيدنا موسى عليه السلام ، وهو ما يرفضه معظم علماء الإسلام ، والكثير من المثقفين ، وعامة الناس ، وأنا منهم.. وأسبابي سأحاول توضيحها فيما بعد .. الموضوع كبير كبير كبير.. :)
(5) ... وستدهش عندما تعرف أنه حتى الأفكار اللادينية والإلحادية كان لها أثر في عدة أفلام ، يتحدث البعض عن "Bruce Almighty" (2003) والذي حاول صناعه تجسيد الذات العلية - سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً- كذلك وفي رأيي الشخصي سلسلة أفلام "Final Destination".. عن أفلام الإلحاد قد يكون لنا كلام..

No comments: