Monday, April 16, 2012

الإفتاء السياسي : سواد السبيل

أعتقد ، وربما يكون كلامي صحيحاً ، أننا تعدينا مرحلة التفرقة بين "الصح والغلط" و "الحلال والحرام".. "الصح و الغلط" الأوسع نطاقاً والأكثر نسبية (ما هو صواب اليوم قد يكون خاطئاً غداً) ، أما "الحلال والحرام" فهما بنص الحديث بينان واضحان ، وبينهما أمور متشابهات .. وهناك أمور كثيرة تدخل دائرة الصح والغلط أكثر منها الحلال والحرام .. قد لا يكون من الصواب ، أو من "اللائق" مثلاً أن ألبس حذاءً أسوداً مع بنطلون بني ، رغم أنه لا يوجد في القرآن الكريم والسنة المطهرة ما يمنع من ذلك..

لماذا أعيد ذلك الكلام الذي هو من نافلة القول ويفترض أن نعرفه جميعاً؟

أمس ، سمعنا هذه الفتوى ، والتي أطلقها عالم أزهري ، ولاقت ترحاباً كبيراً لدى أناس كثيرين (1) ، وعن نفسي أحتقر تلك الفتوى وأحتقر منطقها .. لن أنتخب أياً من المرشحين الفلول ، ولا الإسلاميين ، وهذا موقف معلن وواضح ، بنفس وضوح موقف "الدين والديناميت" منذ يومها الأول ضد الإفتاء السياسي بكافة أشكاله ، والذي لا يمنع تصفح التدوينات القديمة والجديدة من التذكير به ، من تكراره ، من باب "وذكر به"..

دعونا ، بما أن هذا العام هو عام "ليه وإزاي" في "الدين والديناميت" نوضح لماذا نعتبر الافتاء السياسي سواداً ووبالاً على الدين..

الحلال بين والحرام بين كما سبق الذكر ، وليس خاضعاً لفكرة النسبية ، الخمر ليست حراماً بشكل نسبي لكنها عندما حرمت حرمت في المطلق ، بغض النظر مثلاً عن نوعية الفاكهة أو النبات الذي تخمر، الزنا حرام حتى ولو كان بامرأة مشركة عقيم محترفة ، كما أوضح ذلك على ما أذكر الشيخ الأزهري الكبير "محمد أبو زهرة" - رحمه الله - وقتل النفس التي حرم الله حرام وجريمة شنعاء حتى ولو كانت تلك النفس كافرة ، وعندما قام الرسول صلى الله عليه وسلم لجنازة يهودي وسأله الصحابة رضوان الله عليهم أجابهم بعبارة واضحة : "أليست نفساً"؟

السياسة هي قمة النسبية وقمة التغير وقمة التلون ، اليوم يحكم فلان غداً علان ، المجموعة الفلانية أقوى اليوم وأضعف غداً ، عسكر وأعيان وأفندية وأحياناً مشايخ ، كل فئة تتصارع على السلطة تبحث عن غطاء ديني ، وتعتبر الفتوى نوعاً من أنواع التسويق السياسي ، ويساعدها على ذلك - بكل أسف - عدد كبير من الشيوخ يبيحون ويحرمون أموراً لا تدخل في دائرة الحل والتحريم ، فلان يذهب للتصويت هو حر ، فلان يمتنع عن التصويت هو حر ، فلان يذهب للتصويت في انتخابات هذا العام هو حر ، فلان يمتنع عن التصويت في الانتخابات القادمة هو أيضاً حر..

وما دام كله نسبي في نسبي ، فالفتوى إذا كانت بالأمس عن الفلول ، غداً ستكون عن حزب آخر ، كانت بالأمس بالامتناع عن التصويت لـ"س" ، غداً ستكون بالتصويت لـ"ص" لأنه فرض عين ، اليوم حزب كذا ميت فل وعشرة ، غداً نفس الحزب هو عدو الله ورسوله.. ومن العادي جداً بهذه الطريقة أن يفتي أحد الشيوخ الأفاضل لصالح حزب حتى وهو ينتهك ثوابت الدين نفسها..فهو الميقاتي الوحيد في المباراة وهو الأستاذ الذي يعرف أكثر ونحن "حمير" وما بنفهمش..

ويضحكك أكثر المنطق المعوج الذي يستخدم لتمرير تلك النوعيات من الفتاوى ، ففي السابق كان بعض هؤلاء يفتون بأن الذهاب للتصويت في الانتخابات شهادة وأن من يكتمها آثم قلبه ، ماذا إذا كان لا يتوافر لدي أي معلومات واضحة وكاملة عن كل المترشحين لمنصب عام ما؟ في تلك الحالة إذن لا آتي بالشهادة على وجهها ، لأنني في هذه الحالة سأكون "شاهد ما شافش حاجة".. كيف يشهد شخص على شيء أو على شخص لا يعرفه؟

وحرمة وحل المواد في القوانين فهذه نكتة النكت ، طبعاً لم نسمع صوتاً لأي عمامة أزهرية مع احترامي للجميع عندما لم يتم تفعيل قانون البلطجة في وجه من يهددون حياة وأعراض الناس بالسلاح ، علماً بأن حماية النفس والعرض والمال من المقاصد العليا للشريعة.. ولا في وجه الاحتكار وخصوصاً وقت أن ساد وصار من مظاهر الفساد وسبباً في الكساد ..

السياسة هي قمة النسبية وقمة التغير وقمة التلون كما سبق الذكر ، فلماذا يجعل رجل الدين من نفسه سياسياً ومشاركاً في لعبة السياسة التي يعلم هو ، كما نعلم جميعاً ، أنها لا أخلاقية؟.. فالساسة عادةً - بمن فيهم من ينصحنا رجال الدين بالتصويت لهم - يعدون الناخبين بوعود يعلمون (= أي "الساسة")أنهم لن يستطيعون تحقيقها ، ويتحالفون مع الحزب الفلاني ثم يلتفون عليه بعد انقضاء المصلحة ، ثم يجبرون بعد الوصول للسلطة على تعيين أعضاء الحزب العلاني في مناصب ما لاحتياجهم لأصوات أنصاره وخدمات قياداته.. إذن القاعدة واضحة ولا تحتاج لحل أو تحريم : حقق هؤلاء أياً كانوا مصالحي المشروعة كمواطن أهلاً وسهلاً ، استعبط هؤلاء فلا صوت لهم عندي ، بعيداً عن دائرة الحلال والحرام.. أو فتوى الشيخ الفلاني أو العلاني..

الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه ، المؤسسات الدينية تصر على اللعب في السياسة بسلاح الفتوى ، فتوى للملك "فاروق المعظم حفظه الله" ، وفتوى "لضباط حركة الجيش المباركة" ، وفتوى "لثورة التصحيح" ، وفتوى "للاستقرار" ، وفتوى "لشهداء وضحايا الثورة" ، وقريباً فتوى لـ"البرادعي" و فتوى لـ"أبو الفتوح" و فتوى لـ"أبو إسماعيل" و فتوى لـ"عمر سليمان".. ثم نتساءل عن ضعف مصداقية المؤسسات الدينية ورجال الدين.. واستباحتهم كلاعبين سياسيين واغتيالهم ، كما حدث مع مفتي السنة في لبنان الشيخ "حسن خالد" رحمه الله الذي وجد نفسه ، وهو صاحب مواقف محترمة ووطنية حقيقية في بلاده التي تعيش منذ الاستقلال على آتون طائفي ملتهب، في قلب لعبة يصبح فيها رجل الدين سياسياً تطبق عليه كل قواعد لعبة السياسة القذرة بما فيها الاغتيال ، لتغتاله جماعة "الأحباش" -الإسلامية أيضاً والتابعة لنظام "الأسد" الأب - عام 1989.. أخذ الطيب بذنوب الأشرار في لعبة شريرة بطبيعتها..

حتى لو كانت الفتوى السياسية موافقة لما أقتنع به فإني أرفضها شكلاً وموضوعاً ، المسألة ليست مسألة مزاج ، وليست "خناقة" على القهوة يعتمد فيها منطق "صاحب صاحبي صاحبي وعدو صاحبي عدوي...الخ".. وكنت أتمنى أن يرجع هؤلاء إلى قاعدة فقهية أصيلة تقول : "دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة".. خصوصاً إذا كانت أضرار الإفتاء السياسي بهذه الضخامة.. الإفتاء السياسي يقودنا جميعاً إلى سواد السبيل ، لا إلا سوائه....
(1) صدق أو لا تصدق : هناك من رفض قانون العزل السياسي وتطبيقه على الفلول ، وأيد هذه الفتوى!

No comments: