Monday, January 2, 2012

السؤال الثالث : في المصلحة

الأنجاجيه.. ثم الأنجاجيه.. ثم الأنجاجيه..-"شفيق جلال" - فيلم "خلي بالك من زوزو"..


بدايةً.. مقولة "أينما كانت المصلحة فثم شرع الله" هي لـ"ابن القيم".. ربما اعتقدها البعض حديثاً.. لكنها ليست كذلك.. صحيح أن تلك المقولة استغلت كثيراً جداً للدفاع عن الاجتهاد بشكل عام ، لكن عليها أكثر من علامة استفهام.. ليس فقط حول أن يكون "الجانب النفعي" في ذاته محركاً لإباحة شيء أو تحريمه..


أبسط شيء.. "مصلحة مين"؟ من هو صاحب المصلحة التي أينما توجد فثم شرع الله كما رأى "ابن القيم"؟ هل هي مصلحتي؟ مصلحتك؟ مصلحته؟ مصلحتها؟ مصلحة السلطة؟ مصلحة المعارضة؟ مصلحة رجال الأعمال؟ مصلحة الفئات العاملة؟ ربما ما قاله "ابن القيم" رحمه الله كان مناسباً جداً في مجتمع لا يحتوي هذا الكم الكبير من المصالح المتشابكة والمعقدة بل والمتضاربة في أحيان كثيرة جداً..لكن ليس في مجتمع اليوم .. مثلاً : مجموعة من العمال يعملون لدى "س" .. هذه المجموعة ترفض أجرها الحالي التي تراه منخفضاً جداً ولا يناسب الارتفاع في الأسعار ، ومن "مصلحتها" أن يرتفع الأجر قليلاً ، أما صاحب العمل فمن مصلحته أن يبقي الأجر على ما هو عليه بل أن يخفضه لكي تبقى التكاليف منخفضة أقل ما يمكن ليحقق أرباحاً أعلى.. سيقول البعض "العمال دول غلابة وعندهم بيوت وعايزين يعيشوا عيشة كريمة" .. وسيرد البعض الآخر "الراجل دة فاتح بيوت كتير واللي مش عاجبه الأجر ما يشتغلش" .. فيرد الفريق الأول "همة كانوا لقوا شغل في حتة تانية بأجر أعلى وما راحوش اشتغلوا".. في كل الحالات ستجد نفسك أمام وضع معقد لا تعرف فيه من مصلحته أرجع من مصلحة الآخر.. والمثال الذي ذكرته مبسط للغاية لا يقارن بأمثلة أكثر تعقيداً يشهدها الواقع المصري - على سبيل المثال .. برضه- في اليوم الواحد مرات ومرات ، ونعايشها في حياتنا اليومية..

ويقودنا ذلك لسؤال آخر .. "مصلحتي لوحدي ولا مصلحتك ومصلحتي"؟ هل تقود كلمة مثل "الصالح العام" لحل المشكل ، ربما كانت هناك أرضية مشتركة في المثال السابق بين صاحب العمل والعمال ، يصل منها هو وأولئك إلى "حل يرضي جميع الأطراف" ، لكن من يحدد مرة أخرى تلك الأرضية المشتركة التي يفترض بنا جميعاً أن نصل لها كي تسير المركب؟ وهل من الممكن أن تتغلب مصلحة على مصلحة؟ أن تصبح مصلحة الفريق الأقوى هي الصالح العام؟


والسؤال الأخطر ، والذي قصدت منه كتابة هذه التدوينة الطويلة العريضة : هل كل المصالح مشروعة؟


خلال الفترة التي توقفت فيها عن التدوين هنا حدثت أمور جسام ، تكلم فيها زملاء أفضل مما كنت سأفعل وبمراحل ، لكن ما تاه عن الجميع وسط الزحام أن الناس قد صوتت في الانتخابات لاثنين من الضالعين والمتورطين فيما يعرف إعلامياً بفضيحة العلاج على نفقة الدولة.. الفضيحة التي ضمت نواباً كانوا يستجوبون سيناً وصاداً من الوزراء في مجلس الشعب ويهاجمونهم في الصباح ، ثم ينحنون على أكتافهم من أجل تأشيرة هنا وتأشيرة هناك ، وهذا كله في الظاهر على الأقل من أجل خير ومصلحة أبناء الدائرة ، و"خير الناس أنفعهم للناس" ، وبالمرة "نفع واستنفع" ، لتعم المصلحة والفائدة على الكل .. ليأتي الواحد من هؤلاء النواب يتفاخر بما "قدمه" هو لأبناء الدائرة من "خدمات".. وأبناء الدائرة في الأعم سينتخبون من يعمل لـ"مصلحتهم" ، سواء أكانت علاجاً على نفقة الدولة أو وظيفة في شركة البترول ، و"أياً كانت التضحيات" فـ"مش كتير على ابن الدايرة اللي خادمنا وشايف مصلحتنا".. (وكيف لا ولم يفتِ أحد بضرورة عدم التصويت لنواب التأشيرات والعلاج.. بما أن التصويت الانتخابي صار مسألة دينية يُستَفتى فيها شيوخ وعلماء) ..


قِس على ذلك ما يراه الكثيرون مصلحتهم في التعامل مع موظف مرتش ، وعلى التبرم الشديد من أن يتواجد في مكان ما موظف "ما بياخدش شايه" ، أيا كانت نوعية الشاي وما يضاف إليه -من النعناع إلى الياسمين- بحسب مقاس المرتشي وسقف تطلعاته.. مما قد يرى معه بعض الناس ، إعمالاً لمبدأ المصلحة ، أن تُقَنَّن تلك الأوضاع اللاأخلاقية واللاقانونية واللادينية من أجل "المصلحة العامة".. وكي تسير المركب.. إن كانت ستسير بهذه الطريقة..ولن يجد ذلك الأمر مقاومة كبيرة ، فالمصلحة باختصار مشروعة لصاحبها مهما كانت شرعية أم لا.. نفس مبدأ الشخصية التي لعبها "شفيق جلال" في فيلم "خلي بالك من زوزو" .. لمن يتذكر الفيلم..


بالتأكيد كل شيء يتغير ، ويصبح من المطلوب الاجتهاد لكي يواكب تلك المتغيرات ، لكن ما هو الحد المطلوب من البراجماتية التي يكون عليها ذلك الاجتهاد ، بما أني لا أتصور أن تتوافر مصلحة في الدين تقر رشوة أو فساد أو انحراف.. أياً كان ..دمتم بخير..

No comments: