Sunday, May 15, 2011

أقنعة الاعتدال : التطرف بعيداً عن الدين-لافتة إضراب الأطباء مثالاً

خمس سنوات خلت ، لم تخل من أسئلة مشروعة عن الاعتدال والتطرف ، والتطرف المستتر بالاعتدال ، تزداد في كل يوم كما وحجماً في ظروف كتلك..

أحدث تلك الأسئلة ، وبصراحة : هل التطرف حكر على الدين وحده؟

استعد لإجابة قد تنسف معلوماتك عن السائد نسفاً ، وقد لا تنسفها!

في العاشر من هذا الشهر ، أي قبل كتابة هذه السطور بعدة أيام ، قامت نقابة الأطباء بإضراب "غامض" بمصطلحات أكثر غموضاً تحت ستار جذاب للجماهير وشعارات بعضها عكس البعض الآخر ، ما بين تطمين ووعيد وتهديد.. لكن أكثر تلك الشعارات استفزازاً هو "الشعوب المريضة قد تصنع ثورة ولكنها لا تستطيع صناعة نهضة"..

في حياتي ، في حياتي كلها ، لم أشاهد عبارة كارثية الصياغة كتلك.. ولا عدائية كتلك ، ولا متطرفة كتلك..

اللافتة لم تعلق في مستشفى ، أو أمام مبنى الوزارة ، بل علقت في عدة أماكن يراها الغادي والرائح كل يوم ، تخرج لسانها له وتستفزه.. من قام بالإضراب صحيح وسوي وفلة شمعة منورة ، أما أنت فوغد ومريض وابن ستين مريض.. والمشكلة أن مبعوثي العناية الإلهية لعلاج المرضى هم من استدروا عطف السادة المرضى بقولهم تارة "إضرابنا ليك ومش ممكن يؤذيك" ، وبتعليقهم لتلك اللافتة الكريهة القميئة في قارعة الطريق تارة أخرى ، على أساس أن أي إضراب في العالم عندما يتم توجيه دعايته للمجتمع المحيط وليس فقط للسلطة المختصة يكون الغرض من ذلك جذب تعاطف وتفهم الشارع للمطالب التي يطالب بها أصحاب الإضراب.. وهو من الواضح أنهم قد قاموا به على أكمل وجه من وجهة نظرهم.. مش همة برضه شايفين أحسن؟ L

"أنا سليم وانت مريض" ، أو "أنا السليم وانت المريض" أو "أنا السليم وكل ما عداي مرضى" ، التطور الطبيعي لثقافة "الهيلا هيلا هو" ، ثقافة "السباب الجماعي" الموجه لطائفة أو فئة من المجتمع على أساس طائفي أو ديني أو مذهبي أو فكري أو..أو..أو.. ، باكورة الإنتاج الثقافي لمرحلة "السخام السياسي" المسمى بـ"الحراك السياسي" ، ثقافة يفترض معتنقها لنفسه أو لمجموعته حالة من "النقاء" له(ـا) وحده(ـا) من دون الغير ، ثقافة تختلف كثيراً عن ما نراه في ثقافة التعصب الكروي أو الحزبي القائمة على حالة من التنافس يفترض فيها كل فريق منافس أنه الأفضل والأجدر ، بل إنه في التعصب الكروي –مع رفضي لكل مظاهر الخروج على النص فيه- يكن أشد المتعصبين هامشاً من الاحترام للمنافسين وقدراتهم ، عكس التعصب الحزبي أو السياسي القائم على فكر أو أيديولوجيا لا تخل من تطرف..

وفي حالة نقابة الأطباء يستند النقاء – من وجهة نظر لها وجاهتها- إلى "برستيج" مهنة الطب ، المقترنة في تاريخها في مصر بـ"الحكمة" (حيث كان الطبيب يسمى في أوائل القرن الماضي بـ"الحكيم") مروراً بوضعها في داخل "كليات القمة" طبقاً لنظام التعليم الرابسوماتيكي المقبور مروراً بالـ"خمسة عين" وبالدور الذي ارتبط بها –قدرياً لا أكثر- في الحياة الثقافية المصرية ، حيث لا يخل أي تيار سياسي ، وأتحدى ، من داعية و"منظر" فكري –بضم الميم وفتح النون وتشديد الظاء من "التنظير"- تخرج في كلية الطب ، من الماركسية المتطرفة إلى تنظيم القاعدة بما في المنتصف من أطياف سياسية وفكرية ودينية ومذهبية في مصر..هذه الماركة من النقاء نجدها أيضاً لدى مؤسسات في المجتمع كان لها وضعها السياسي والاجتماعي المميز مثل المؤسسة الشرطية مثلاً.. وتظهر بقوة في أعقاب بعض التحولات السياسية كالثورات ، وما مصطلح "حزب الكنبة" الذي أطلقه بعض من يحسبون أنفسهم على الثورة إلا مظهر من مظاهر النقاء إياه "احنا نزلنا علشانكم ، وكافحنا علشانكم وانتم قاعدين زي البوروطة ، احنا أكثر وعياً وانتم .... و ...."..الخ..

هذه الماركة من النقاء لا تختلف كثيراً عن درجة النقاء الذي نجده في ثقافة التشدد- "نحن أكثر ورعاً وتقوى من الآخرين"- أو ثقافة الزعامة المذهبية- "نحن الممثل الشرعي للإسلام أو لأي دين آخر" أو "نحن الدين الصحيح"-أو ثقافة التكفير "نحن المؤمنون الوحيدون والباقي كفار"..ولو كانوا على نفس الدين..

مصر من دول كثيرة في العالم تعاني من عدم عدالة في توزيع السلطة والامتيازات ، على مدى التاريخ المصري الضارب في القدم حصلت فئات على امتيازات لا علاقة لها بما تقدمه في المجتمع ، مجرد منح من نظم سلطوية من أجل "فرق تسد" ، وعلى حسب ما يمكن أن تقدمه بعض تلك الفئات للنظم الحاكمة سواء وقت أن كانت مصر تحت احتلال أو عندما استقلت بعد الثورة في الخمسينيات من القرن الماضي.. وبالتالي تشعر بعض الفئات بتفضيل إعلامي وسياسي وخدمي على فئات أخرى ، وكلما فكرت فئات أخرى في الصعود وضعت نصب عينيها امتيازات الفئة الأفضل فتقلدها في السلوك والتفكير والشعور بالنقاء على حساب الآخرين ، تستوي في ذلك امتيازات عسكر المراسلة والتذكرة المجاني في المواصلات..ومع سعار ثقافة المصلحة بدأت بعض الفئات والمجموعات تبحث عن برج عاجي تعزل فيه نفسها عن المجتمع الذي ليس من مستواها ، وتتعامل مع الكل بما فيه الدولة بهذا "النقاء"..

للجغرافيا السياسية والاجتماعية والاقتصادية دور في التطرف الذي اقتحم أدياناً ومذاهب كثيرة وأثر فيها ، ولو كانت المسألة دينا فقط فالدين واضح وقواعده واضحة ، لكن الناس متباينون ، يعيشون في أماكن مختلفة وبيئات مختلفة ، يتحدثون لغات مختلفة ، ضمن أنماط ثقافية مختلفة ، والتاريخ يقول أن للجغرافيا السياسية والاجتماعية والثقافات السائدة في بقاع كثيرة جداً من العالم –فضلاً عن الظروف السياسية وتوزيع القوى في العالم وقتئذ- دور في صناعة التشيع والتصوف والتيارات السلفية ، كما كان للجغرافيا دور في التمايز بين الكنيسة المصرية والكنيسة الشرقية في القسطنطينية والكنيسة الغربية في روما..ولأن طبيعة العالم في الفترات التي ظهرت فيها الأديان اقتضت توسعاً عسكرياً من أجل الحفاظ على البقاء أتيح لأديان كثيرة أن تتغير وأن تتلون وأن تظهر فيها مذاهب وتيارات في كل منها انحلال واعتدال وتطرف وما بين الثلاثة..

ولمن يرى بعض الحنجرة فيما سبق ، تخيلوا تأثير بعض تلك العوامل على الثقافة العامة لمعتنقي أي دين أو أي فكرة : الجغرافيا والقرب من دول ومجتمعات أخرى والعلاقة بها ، العلاقة بالآخر داخل المجتمع ، توزيع السلطة ، توزيع الثروة ، نظرة المجتمع لفئات دون غيرها وسلطات دون غيرها ، علاقة المجتمعات بالدين والعادات والتقاليد والدولة ، النشاط الاقتصادي السائد ، و..و... من ما سبق ما هو ثابت ، ومنها ما يتغير بتغير الزمن وبتأثيرات التعليم والثقافة والاحتكاك الإجباري (الحروب والاستعمار وخلافه) أو الاختياري (عن طريق التجارة على سبيل المثال) ، كل ما سبق وغيره يؤثر في الاعتدال والتطرف داخل أي مجتمع ، ليس في الدين وحده ، حتى لا يحمل "البعض" الدين دون غيره وبنسبة مائة في المائة ما نعيشه من تطرف..

وفي كل المجتمعات دون استثناء مقومات للتطرف ، دون أن تلتصق تلك التهمة بمجتمع دون آخر ، لكن التباين بين تلك المجتمعات وغيرها في الاعتدال والتطرف يرجع لقدرتها على إصلاح مناخاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفهمها للدين بشكل أو بآخر.. هناك مجتمعات داخل العالم الإسلامي على سبيل المثال عرفت الاعتدال والتطرف معاً ، والشيء نفسه ينطبق على الخارج..

ما حدث في مثال نقابة الأطباء وغيره صدمة بالنسبة لكثيرين ، سلوك متطرف لا علاقة له بالدين ، ولا بذقن ولا بولاية فقيه ولا بطرق ولا بمشيخات ، لأن مجموعة "التلاتة أربعة خمسة" المسيطرة على الميديا في مصر (من حظنا السيء جداً أن تسيطر شلة بنفس العدد على الإعلام في مصر قبل سقوط النظام السابق وبعده) عودتنا على أن التطرف ملازم للدين من الباب للطاق ، متناسيةً أن حالة مجتمع من الممكن أن تساعد على ارتفاع موجات التطرف أو انحسارها ، وأن التطرف أكبر من مجرد سلوك يلازم أتباع دين أو مذهب مهما تلوث ذلك المذهب بتأثيرات مجتمعية جعلته اكثر تطرفاً..

التطرف أكبر من أن يلصق بدين ، أو بمتدينين.. التطرف مسألة مناخ يسهم فيه من يدعون أنهم مثقفون ، ومناضلون ، ومعتدلون يوزعون تهم التطرف على الآخرين..

أتمنى أن أكون أوصلت فكرتي بشكل صحيح ودون تناقض.. دمتم بخير..

1 comment:

Ibrahim Ben Gamal said...

أعجبني منك ما قرأت .
وبخاصة عندما حاولت ان تبرهن أن التطرف ليس بالضرورة عباءة ملتصقة بالدين والمتدينين عبر مثالك عن اضراب الأطباء, ربما يختلف معك البعض ,ولكنني قد اقتنعت بدلائل قدمتها انت .
هنيئا لك بعلمك , أدام الله عليك الرجاحة .