Sunday, September 28, 2008

قبل اشتعال الديناميت

أعرف أن السطور القادمة عنيفة ، وقد تُفْهَم بشكل خاطئ.. ولكن الأمر يتطلب بعض الصراحة ولو كانت "عنيفة" و "دجَّة" كما يقول إخواننا الشوام..

ما أنا متأكد تماماً من "دجاجته" - من "دِّج" سالفة البيان- هو مقال المستشار السابق "طارق البشري" الذي نشره السبت 27 سبتمبر/رمضان 2008/1429 على رئيسية "الدستور" والذي يتهم فيه الأغلبية السنية بممارسة "الفاشية" ضد الشيعة في معرض هجوم الشيخ "يوسف القرضاوي" على "التبشير" الشيعي في العالم العربي.. عزفاً على نفس النغمة التي عزفتها من قبل "مرجعيات" وشخصيات شيعية وحتى بعض "المفكرين" من "غير" الشيعة أمثال الدكتور "محمد سليم العوا"..وهؤلاء يرون أن ما يحدث "ليس" "تبشيراً" وإنما هو "انبهار" و"إعجاب" بنموذج "إسقاط الشاه" و"المقاومة" في ظل ما يتعرض له متبعو المذهب الشيعي من اضطهاد..

كلام فارغ..ولنكن صرحاء:

1-الأوطان يا سادتي الكرام مبنية على التعايش.. و"العادي" في الأشياء أن تبنى الدول على تعددية من حيث مستوى الثروة ، والتعليم ، والدين ،والمذهب داخل الدين الواحد.. وبالتالي لن يسعد المجموع إذا كان لدى بعض أفراده ما هو ضد هذا التعايش وضد ما استقر عليه ذلك المجموع على اختلاف انتماءات وديانات ومذاهب أعضائه..

لذلك عندما تفكر أي مجموعة من مجموعات "الإسلام السياسي" أيَّاً كان مذهبها -على سبيل المثال- في بناء نموذج سياسي "مضاد" لشكل الدولة فإنها تؤلب عليها الدولة ونظامها السياسي ، وعندما يكون هذا النموذج السياسي إقصائياً مضاداً للمجموع أو متضارباً معه فلن تقابل تلك المجموعة بترحاب كبير على الأقل ممن يتضارب النموذج سالف البيان معه..أذكر بأن المثال السابق عن "مجموعات" "الإسلام السياسي" التي هي لها نظام دخول وخروج وعضوية .. فما بالكم بالتيارات المذهبية الأكثر تواجداً بين الناس والتي يولد كثير منهم بها..

وهذه هي مشكلة العديد من التيارات المذهبية التي تعيش كأقليات داخل العالم الإسلامي وخارجه أيضاً..حتى وإن سلمنا بوجود اضطهاد.. فعبء وجود حساسيات بل وحزازيات من قبل باقي أفراد المجتمع ضد أتباع هذا الاتجاه أو ذاك يقع جزء منه على هؤلاء الأتباع بسبب تصوراتهم المتضاربة مع ما استقر به المجتمع وارتضاه للتعايش بين أبنائه.. وكلما كانت تلك التصورات أكثر تطرفاً وتضارباً كلما كبر نصيبهم من المسئولية..

2-ومشكلة الشيعة مشكلتان.. الأولى أن الخلاف السني الشيعي هو بالأصل خلاف سياسي بامتياز ، قبل أن يكون خلافاً مذهبياً دينياً ، والثانية هي ارتباط المذهب الشيعي بالسياسة عموماً وبدولة بعينها (نموذج دولة الدين-التي يحكمها أو يشارك في صنع سياستها رجال الدين)هي إيران بشكل خاص.. ومشكلة إيران نفسها هي أنها قوة إقليمية لها مشروعها السياسي الذي لا يتضارب فقط مع "النظم"- الفزاعة التي تستخدمها الميديا الموالية لإيران- ولكن مع الناس.. من الممكن أن يتعاطف الكثيرون مع "حسن نصر الله" ومع "الملالي" لكن عندما تصل الأمور لأن يُحكَم هؤلاء الكثيرون بنموذج سياسي على الطريقة الإيرانية فسيرفضون رفضاً قاطعاً.. ليس فقط بسبب التضارب المذهبي ولكن حتى بسبب "تديين الدولة" واختزال الدين في شخص الدولة فقط..

3-وطبعاً ستتضاعف المشاكل مع المجموع عندما تبدأ "الدعوة" للمذهب داخل بلد يعتنق مذهباً آخر ، ويتفق أهله على اختلاف أديانهم ومذاهبهم على رفض الدعوة للمذهب أو للدين داخل مجتمع الدولة الواحدة حفظاً لتماسك الدولة..

يحدثنا المستشار السابق "طارق البشري" عن "الوحدة" والتكاتف ونبذ الخلافات.. وهو في رأيي حديث "مائع" خطابي آخر حاجة.. الوحدة لا تبدأ من نبذ الخلافات بل من نبذ السلوك الخلافي نفسه.. كما أننا مطالبون بمراجعة العديد مما نشأنا عليه فيما يخص علاقة الإسلام بالعصر والخروج من حالة الجمود والفصل العاقل بين شئون الدين والدنيا هم الآخرون بحاجة لمراجعة علاقة الدين بالسياسة لديهم .. ليس تجملاً ولا نفاقاً.. ولكن إن كانوا ، وإن كنا ، نريد تعايشاً بحق وحقيق.. بما أن التعايش هو طريق الوحدة التي يخطب فيها سيادة المفكر-وغيره- ليل نهار دون أن يخبرنا هو - أو غيره- بشكل عملي وعقلاني كيف تتحقق.. حتى لا نكون كمن يحاول تشغيل جهاز كهربائي بدون توصيله بمصدر التيار الكهربائي..

م الآخر :"وحدة" بمفهوم خطابي سمج بدون معالجة ثقافة استعداء المجموع ستخلق حساسيات داخل المجتمع ضد أي مجموعة (بلاش كلمة أقلية) تتبنى تلك الثقافة.. وهو ما يعني مزيداً من الديناميت.. دمتم بألف خير..

Saturday, September 27, 2008

في "شرف" فتح الباب

أمران ذكراني بثالث: الأول هو فتوى قرأتها عند زميلي العزيز "ابن عبد العزيز" في معرض تدوينته "تنقية الشريعة من الفتاوى المريعة" تخص اللحية ..والثاني هو فتوى ، أو "قول" لفضيلة المفتي (بما أن العالم الجليل يأخذ تلك المسألة بحساسية) بصحة صلاة المرتشي.. والثالث هو "شرف فتح الباب".. ومن الثالث سأدخل على الأوليين!

"شرف فتح الباب" يكاد يكون شخصية حقيقية وإن لم تشر إلى شخص بعينه.. كلنا نعيش وسط أشخاص على نفس تلك الشاكلة.. صحيح أن اختيار "محمد جلال عبد القوي" لأن يكون "شرف فتح الباب" بهذا الشكل استفز الكثيرين خاصةً من "الملتزمين" (وتعريف كلمة "ملتزم" مطاط للغاية وعايز له تدوينة لوحده) .. لكن من الصعب أن ننكر أن "فيه منه موجود" وبهذا الشكل ومنا من اصطدم بنماذج مشابهة في دراسته ، أو عمله ، أو حياته بشكل عام..

شرف فتح الباب
"شرف" المتدين قرر تقديم أول تنازل للشيطان .. وبعد التنازل الأول - عادةً - تبدأ باقي التنازلات الأخرى.. وبغض النظر عن السبب "التلفيقي جداً" الذي جعل هذا الرجل يقدم على تصرف يناقض ورعه وتقواه فإن الشيطان أقنعه بمبرر بسيط جداً: لم تعطني الشركة الموشكة على الخصخصة مكافأة أربع وثلاثين عاماً من الخدمة .. إذن فهذا المبلغ من "حقي"..

وبما أننا شعب متدين بالفطرة -كما يقال عنا ونقول عن أنفسنا- وجد هذا "الشرف" أول الأمر من يردعه في صورة زوجته التي ترفض في "إباء" و"شمم" أن يدخل البيت مليم واحد حرام.. ويصل الأمر بها إلى طلب الطلاق منه..

في أول الأمر ، وقبل أن يُقبَض على السيد "شرف فتح الباب" كان الرجل يحاول أن يصلي جاهداً ، ولم يستطِع ، لكن أيام السجن أبقت على تمسكه بالقناعة الشيطانية تلك حتى بعد مفارقة أسوار السجن.. وفور أن تنشأ قصة حب بين "شرف" ومحامية الشركة تتغير -بمائة وثمانين درجة على الأقل- قناعة زوجته وتستحل المبلغ الحرام إذا كان الغرض منه الإنفاق على أولادها!

ما مضى من حلقات المسلسل نكأ جرحاً عميقاً.. هو مفهومنا نحن للحلال والحرام ، فلدى العديد من الناس -ومنهم "ملتزمون"- قناعات قد تنبع من داخل رغبتنا نحن في المال الحرام المغري "لو كان حلال أدينا بنشربه .. لو كان حرام أدينا بنحرقه" .. "حلال حرام أهي فلوس والسلام".. أو يتيحها لك المناخ العام والتأثير الإعلامي "اسرق الحكومة عادي همة شوية حرامية" .. "ما كل الناس بتسرق.. اشمعنى انت اللي حتعمل فيها عم الشريف"(1)..الخ..

وبما أن هذا التصرف ليس حراماً في رأيك فدع القلق واترك حياتك تسير على علاتها.. واصل صلاتك وقف وراء أئمة (ومطربي) التراويح والتهجد وابك ما استطعت ثم عد لممارسة رشاويك وسرقاتك عادي خالص.. الأمر الذي يحيلنا إلى "قول" فضيلة المفتي بصحة صلاة "المرتشي" "إجرائياً".. (طالما استوفت شروطها) وما قاله بضرورة أن يتوب هؤلاء إلى الله وأنه لا ينبغي أن نغلق أبواب الرحمة في وجوههم (لغاية دلوقت الكلام معقول) لكن فضيلته لم يخاطب من يستعمل الصلاة كـ"جُنَّة" وساتر يمارس خلفه ما يشاء(2)..

والمضحك أن هناك تصرفات خرجت من دائرة المحرمات لتحل محلها تصرفات أخرى .. هنا تأتي الفتوى التي أشار إليها "ابن عبد العزيز" في خصوص "اللحية".. وفي رابط تدوينته المشار إليها لاحظوا لهجة السيد صاحب الفتوى.. والتي يستحيل أن نسمعها تقريباً إذا ما تعلق الأمر بمواضيع أخرى نحسبها هينة وهي عند الله عظيمة..

هل أصبح مفهوم الحلال والحرام عندنا -ونحن "الشعب المتدين" -هكذا؟ هل ذهبت التفرقة بين المال الحلال والمال الحرام إلى المتحف في الوقت الذي نتزاحم فيه على الذهاب إلى صلوات التراويح والتهجد؟
(1) ويحلو للبعض الاستدلال بأثر منسوب للصحابي الجليل "عمر بن الخطاب" الذي عاقب صاحب مزرعة لأنه لم يعطِ عاملاً فيه أجره فدفعه للسرقة.. وهو المبرر الجاهز لتبرير بعض أنواع السرقات.. أثر أشك وبقوة في صحته خاصةً وأن الصحابي الجليل "عمر بن الخطاب" تعرض لحملات تشويه وسباب لم يسلم منها بعد مرور قرون على استشهاده..وبالمناسبة لم يعجبني بالمرة تبرير "محمد جلال عبد القوي" لما فعله السيد "شرف فتح الباب" ووصفه إياه بأنه من "ضحايا" الخصخصة!
(2) الحديث نفسه محل تدوينة قادمة قريبة بإذن الله..

Saturday, September 13, 2008

في انتظار القطيع

الناس نوعان بلا ثالث: أناس يتحركون .. وأناس ينتظرون الآخرين..أناس يأخذون القرارات والمبادرات ويتحركون فرادى .. وآخرون يضبطون إيقاع أقدامهم مع القطيع سيراً وتوقفاً..

نعم .. منا كُثُر يفعلون أشياء كثيرة في حياتهم فقط لأن "الناس بتعمل كدة".. لا بدافع ذاتي داخلي تجاه فعل الشيء.. عِش ومت وتزوج ومارس عباداتك "زي الناس".. سواء توافق ذلك أو تعارض مع ما يريحك ويرضي الله ولا يغضبه..

بمعنى أصح: حسِّن سلوكك و"اتلم" في رمضان فقط لأن الناس تفعل ذلك في رمضان.. بعد رمضان افعل كيف شئت.. فقط لأن الناس تفعل ذلك في رمضان.. اختم القرآن الكريم مرة واثنتين وثلاثة في رمضان.. وبعد الشهر الكريم انت حر.. زيك زي الناس..واظب على الصلوات في أوقاتها بنوافلها وسننها في رمضان .. ماهي الناس كلها بتعمل كدة!

لدينا في بلادنا مثل يقول "الكثرة تغلب الشجاعة" .. وحكم القطيع عندنا هو "حكم القوي" المستبد على الضعيف .. ويصبح -في نظر القطيع- كثير من نوافل الأمور فروضاً وكثير من الأشياء العادية جرائماً لا يمحوها إلا الدم.. حتى في أشياء هي كلها علاقةُ بين العبد وربه عز وجل ولا تحتمل تدخلاً من أحد حاكماً كان أو محكوماً..

مصلون
بعبارة أخرى.. وطبقاً لقانون القطيع .. أنت عرضة لتلقي استنكار ، وتوبيخ ، وتعنيف ، إن لم يكن ما هو أكبر ، فقط لأنك لا تتصرف مثل القطيع.. مثلاً.. تشعر أنك ملزم بختم القرآن الكريم ، وأحياناً أكثر من مرة .. وإن لم تفعل تتلقى توبيخاً وتعنيفاً.. رغم أنك قد تفضل ختم القرآن تدبراً لا قراءة - كما دعا إلى ذلك إمام أحد المساجد - بمعرفة معانيه وفهم ما فيه من أوامر ونواهٍ- وهو أمر قد يستغرق ما يزيد على الشهر كله.. ونفس التوبيخ والتعنيف والاستنكار والشجب تسمعه عندما ينمُ إلى علم بعض من حولك أنك لا تصلي التراويح في المسجد "الفلاني" الذي يتوافد الناس أمماً على الصلاة فيه.. "انت مبتصليش هناك ليه يابني؟ دة الراجل الإمام اللي هناك بيختم جزئين كل يوم؟ وصوته أحلى من مدحت صالح وعمرو دياب وهو بيقرا القرآن وبيغـ.. أقصد بيدعي دعاء القنوت؟".. رغم أن الإطالة الشديدة في القراءة تذهب بتركيز المصلي في الصلاة .. وغناء القرآن في الصلاة خاصةً على هذا النحو الفج والمستفز يلقي بالخشوع من الشباك .. وأنه من الممكن أن تجبر على أداء تلك الصلاة في منزلك* .. أو أن يجبرك أي مانع .. سواء عملك الليلي أو مرضك على عدم أداء تلك الصلاة المسنونة من أصله

حكم القطيع لا علاقة له بالرشد.. القطيع مكون من مجموعة من البشر يمكن الضحك عليهم واللعب بهم وتغيير تضبيطاتهم وأذواقهم.. الأمر الذي يفرغ العبادة تماماً من مضمونها..

سؤال شرير على الماشي: أليس من الغريب أن يطلب القطيع من أفراده صراحةً أو ضمناً أن يضبطوا عباداتهم على إيقاعه ، فيم ينتظر نفس هذا القطيع الفتوى الدينية في أمور لم ينزل فيها القرآن الكريم ولم يتحدث عنها الرسول عليه الصلاة والسلام؟

أن تؤدي عباداتك بوازع داخلي من نفسك خير بكثير من أن تنتظر قطيعاً لا يستأسد إلا على أفراده ويحتاج دائماً لمن يقوده ويحركه..

Tuesday, September 9, 2008

البطاقة الحمراء

لا يهمني ماذا قال هذا الشاب لمفتي الديار المصرية في مسجد السيدة زينب.. فهو لم يطالب العالم الجليل مثلاً بالنزول من على المنبر أو التنحي من إمامة الصلاة على طريقة "انزل.. انزل". لكن ما يثير الألم والحنق هو رد فعل مفتي الديار على تصرفات شاب صغير السن .. إن كان هذا الأخير عصبياً ومندفعاً بحكم صغر سنه فكان على العالم الكبير أن يتصرف بحكمة ونضج وهدوء.. علَّ الشاب الصغير يتعظ أو يتعلم ..

الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصريةوبعيداً عن الهرتلة اللمبية التي قرأتها في تعليقات قراء "المصري اليوم" والتي تنم عن تعصب أعمى ومقيت لشخوص العلماء قبل مبادئهم (وهي هرتلة اعتدت سماعها من أنصار مذاهب مختلفة كلُ على شيوخه ورموزه وقياداته).. أرى أن فكرة أن يقول أي عالم أو أي إمام مسجد لأي مصلٍ "روَّح يا خويا روَّح" أمر غير مقبول تحت أي ظرف.. حتى لو خالف الشاب النظام والاحترام الواجب للمسجد فهناك إدارة معينة لهذا المكان تتعامل مع الشاب المذكور بالشكل المتبع طبقاً لقوانين ولوائح الوزارة.. الحق ما يزعلش..

عن تجربة شخصية.. البطاقة الحمراء هي البطاقة الوحيدة الموجودة لدى بعض صغار الشيوخ وأئمة المساجد وبعض مَن كتب عنهم زميلنا عبد الرحمن .. وتشهر عند أي خلاف أو أي نقاش.. حاد أو قائم أو منفرج حتى .. حيث يعتبر البعض أنفسهم مثل حكام كرة القدم.. وأن اللاعب لاعب والحكم حكم .. وأن "نحن الحقيقة وأنتم الأوهام" كما حدث معي منذ عامين..أو أن أوشك على الدخول في معركة مع شلة الإمام المحترم كما حدث في أواسط التسعينيات..

ماشي.. هؤلاء صغار خبرةً وسناً.. ماذا عن الكبير؟ عن القدوة؟ عن القائم على مؤسسة الإفتاء "الرسمية" في بلد بأكمله؟ عمَّن يجب أن نسترشد بفتاواه وعلمه الغزير بدلاً من شيوخ الفضائيات والمفكرين الحمبولليين؟..

إذن .. كان على فضيلة المفتي قبل أن يشهر البطاقة الحمراء في وجه المصلي أن يعلن إلغاء صلاة التراويح في المسجد الزينبي..وأن يصلي هو وكل الموجودين في المسجد في تلك الليلة صلاة القيام في بيوتهم وفقاً للآراء الفقهية التي تقول بذلك.. لا أن يدق مسماراً جديداً في نعش ثقة الناس بالعلماء وبمؤسسة الإفتاء.. خطورة ما حدث ويحدث ستظهر فيما بعد.. عندما تأتي الطوبة في المعطوبة وينتهي الوقت المحتسب بدلاً من الضائع..

Thursday, September 4, 2008

الإسلام والحضارة: يعني إيه حضارة؟

فقد جاء الإسلام بثورة عظمى فى تاريخ الإنسانية ودعا إلى الحرية والعدل والمساواة قبل الثورة الفرنسية بقرون طويلة وبفضل هذه القيم العظيمة .إستطاع الإسلام أن يبدع حضارة حقيقية شغلت ثلثى العالم القديم من أوروبا إلى الصين وقدمت إنجازات كبرى فى مجالات العلم والفكر والفن .

السابق هو جزء مما كتبه "علاء الأسواني" صاحب "يعقوبيان" و"شيكاغو" في الدستور يوم 13/8/2008.. والمقال مليء بنقاط أختلف معها بشدة .. هذه منها..

أطلب فقط ممن يقرأون هذه التدوينة أن يقرءوها بهدوء .. ولآخر سطر.. ربما يثير عنوان التدوينة نفسه غضب الكثيرين ولهم الحق.. أطمع فقط في سعة صدوركم..

عندما نتحدث عن الإسلام نتحدث عن العقيدة والعبادات والمعاملات.. كلها قدمت إطاراً أخلاقياً متميزاً لعلاقة الإنسان بربه ، وبنفسه ، وبالآخرين سواء ممن كانوا على دينه أو على غير دينه.. وإن طبقت هذه المعايير فإن الفرد سيعيش بشكل أفضل وبالتالي المجموعة..

ما وصلنا أن تلك المعايير قد طبقت بامتياز في مرحلة النبوة ، وفي السنوات القليلة بعد انتقال الرسول الكريم (ص) إلى الرفيق الأعلى ، ثم سرعان ما تبدلت الأمور تماماً على كل الأصعدة في الفترة التي ظهرت فيه "الحضارة الإسلامية"..في العهدين الأموي والعباسي تحديداً..

نأتي إلى "الحضارة" ..

اختلفنا في تعريف كلمة "الحضارة" .. التيار السلفي والسلفي الجهادي يلخص الحضارة فقط في الجانب الحربي فقط .. والبعض من المستثقفين يلخصها في الإنتاج الثقافي فقط.. وكلاهما تلخيصان خاطئان وظالمان إلى أبعد حد ممكن .. لتجاهلهما الفاضح لما جاء من أجله الإسلام: الفرد.. البني آدم..

حتى في سنوات "النهضة" العسكرية ، و"النهضة" الثقافية .. لم يصلنا أن عامة الشعب قد استفادوا.. ما وصلنا فقط هو أخبار العلماء والحكام والقادة -وهم بالتأكيد الأكثر تأثيراً في مجرى الأمور في تلك المرحلة من التاريخ- أما العامة فكانوا شبه منعزلين عن ذلك كله.. لم يكن ذلك قاصراً على الحضارة الإسلامية وحدها بل كل حضارات العالم القديم بلا استثناء..

لا علاقة واضحة بين "النهضة" العسكرية و"النهضة" الثقافية من جهة وبين الإسلام وقيمه من الأخرى.. فلفترات طويلة سادت العالم وتسوده حضارات كونت جيوشاً قوية ومنظمة وكبيرة التعداد ، وأبنية عملاقة وضخمة ونتاج تقني وفلسفي غزير..ورغم ذلك فقد كانت مسرحاً للظلم والفساد ولكل ما هو ضد ما أتى به الإسلام من قيم.. وحتى في "الحضارة الإسلامية" بمفهومنا نحن.. ولذلك أستغرب أن يتحدث أي داعية عن العصر الذهبي للإسلام مشيراً إلى الخلافة العباسية مثلاً ، وأنه بفضل تمسك المسلمين بقيم الإسلام امتلكوا أسباب "العزة" و"الكرامة" في حين أن ذلك العصر قد شهد العكس على طول الخط ، وأن الحانات كانت منتشرة تماماً مثل انتشار حلقات الزهاد ، وهي كلها أشياء عكس ما يتحدث عنه هذا الداعية أو ذاك المفكر أو سعادة البيه أو أياً ما كان..

إسهام الإسلام الأهم جاء بتقديم ما كان ينقص تلك الحضارات من جانب أخلاقي يحميها ويطيل من فترة صلاحيتها..إطار قوامه العدالة والتسامح والنبل .. وبكل أسف لم تستفد منه كل الدول والدويلات التي تلت مرحلة الخلفاء الراشدين.. لو استفادت به على سبيل المثال الخلافتان الأموية والعباسية على ما حققته من توسع عسكري ونجاح تقني واستفاد الناس من آثاره لكان للأمور كلها شأن آخر..انعكس علينا نحن..

مرة أخرى.. أطمع في هدوئكم وسعة صدركم.. نستكمل بعد قليل بإذن العلي القدير..

الإسلام والحضارة: السقيفة والفتوحات

نبقى مرة أخرى مع ما قاله "علاء الأسواني".. ومع أهم منعطفين في تاريخ الحضارة الإسلامية.. سقيفة بني ساعدة ، والفتوحات الإسلامية.. وكلاهما يؤكد ما سبق ذكره في الجزء الأول..

وكلنا نذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما حضره الموت لم يفرض على المسلمين شخصا معينا ليحكمهم بعده , ولو أنه فعل لما راجعه أحد فى ذلك , لكنه أراد أن يرسى حق المسلمين الديمقراطى فى إختيار حاكمهم بإرادتهم الحرة .. وقد نتج عن ذلك أن عقد المسلمون إجتماع السقيفة وهو بلغة اليوم إجتماع برلمانى ديمقراطى من طراز رفيع

المعروف أن الدين قد تم بنهاية الوحي بدليل قول الله تعالى "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"-المائدة (3) وهي من أواخر ما أنزل من الذكر الحكيم- وما بعد تلك المرحلة هي اجتهادات وأحكام بنيت على الأساس الذي أُرسِيَ في فترة النبوة..

ما حدث لم يكن له صلة بالدين.. بل كانت واقعية سياسية من قبل الصحابة رضوان الله عليهم..

لم يحدد الرسول الكريم بالفعل شخصاً يخلفه ، وبالتالي كان يجب على المسلمين أن يختاروا شخصاً يجمعون عليه بحكم حساسية تلك المرحلة (والتي تأكدت فيما بعد) .. وكان الحل هو الشورى التي يعتقد البعض من أصحاب التيارات السياسية أنها تعني الديمقراطية ، وإن كانت في رأيي أبعد وأعمق من ذلك..الشورى في الحياة وليست في السياسة فقط.. قليل من التدبر لكلمة "أمرهم" السابقة لـ"شورى" في الآية يفي بالغرض.. ولنا عنها بإذن الله كلام..

والمذهل.. والمذهل فعلاً .. أنه في الوقت الذي ينتقد فيه بعض الأتاتورك بعنف تلك الحقبة واصفين إياها بأنها فترة تغلب الثقافة القبلية ، نجد الثقافة القبلية نفسها هي الأكثر ترحاباً بفكرة الشورى واتخاذ القرار الجماعي ، كان العرب كذلك أيام الجاهلية ، وكانوا كذلك في وجود الرسول الكريم (ص) أكمل البشر ، وظل كذلك بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى ، على العكس من المجتمعات التي كونت دولاً وحضارات في تلك الفترة حيث سادتها مركزية القرار وأحادية اتخاذه.. إلى درجة كان يعتبر فيها الحاكم ظل الإله على الأرض بل كان نفسه يؤله في مجتمعات بعينها.. لم نكن نسمع في قريش عن سيد واحد متفرد باتخاذ القرارات بل كان الكل يستشارون ويؤخذ رأيهم..

ولم تستفد الدول الإسلامية من هذه الفكرة بشكل كامل فيمَ بعد..سنأتي على ذكر تلك النقطة بعد قليل..

نأتي إلى الفتوحات..

كانت الحروب في تلك الفترة عموماً ضرورة بقاء أكثر منها أي شيء آخر..حتى لو قال من قال أن غرضها التوسع فقط.. التوسع أيضاً في هذه الفترة من تاريخ البشر كان مسألة حياة في ظل وجود قوى لن ترحب بالكيان الوليد.. لهذا كان على الخليفة أبي بكر الصديق ومن بعده عمر بن الخطاب العمل على محورين.. جبهة داخلية مستقرة .. وجيش قوي منظم أمَّن لهم نجاحات عسكرية باهرة في زمن قياسي..

كانت الفتوحات عموماً سلاحاً ذا حدين.. ضمنت انتشاراً جغرافياً أوسع للإسلام وقوةً أكبر لكيان الخلافة ، وأعطت الفرصة للخلفاء للوقوف على نظم إدارة الدولة والحكم السائدة والتي لم يقابل معظمها - كنظم الضرائب والدواوين مثلاً- بأي مقاومة باعتبار أنها شئون دنيوية خالصة لا تتنافى مع ما جاء بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة .. وتصادف في تلك الفترة أن كان الحكم في أكبر دول العالم في تلك الفترة وراثياً ، على عكس ما سار عليه الأمر في عهد الخلفاء الراشدين.. وهنا كانت مرحلة الانتقال من مرحلة ما بعد النبوة إلى مرحلة الدولة المنظمة .. من الشورى إلى ما يشبه الديكتاتورية..

ومن الغريب- كما سبق البيان- أن الحضارة الإسلامية بمكوناتها الثقافية والعسكرية ازدهرت أكثر في مرحلة الخلافتين الأموية والعباسية.. بكل ما فيهما من إقطاع وفساد أخلاقي وتطرف فكري..

أعلم أن السطور السابقة مملة و"رخمة" بعض الشيء الكثير.. لكن قصدت أن أخرج منها إلى عدة خلاصات أريد مناقشتها معكم..

أولها.. من الظلم اعتبار الحضارة مقياساً لنجاح أي دين .. فالعوامل الدنيوية تلعب الدور الأكبر في صنع أي حضارة .. وفهم الفصل بين شئون الدنيا والدين ساعد الحكام على تقبل العديد من النظم السائدة (الحلو منها والوحش) وتطبيقها..وثانيها أن تعليق الاستبداد على شماعة الدين جهل سراح.. فجميع النظم السياسية في العالم ذات علاقة بالدين بمن فيها تلك التي تعتبر الدين أفيوناً الشعوب .. وثالثها.. أنه كان من الممكن أن تبقى الحضارة الإسلامية فترةً أطول لو تمسكت أكثر بالقيم التي جاء الإسلام من أجلها ..تلك القيم التي كان يفترض بها أن تعطي إطاراً أخلاقياً يحمي الدولة ويطيل فترة صلاحيتها.. أن يتعايش الناس بتلك القيم وأن يعملوا بجد ويحققوا نجاحاً يكفيهم غيرهم أهم من ألف كتاب وعشرة آلاف مبنى وعشرين ألف معركة.. دمتم بألف خير .. وكل عام أنتم بخير..