Friday, February 17, 2012

لتونس حسابات أخرى

بطل تدوينة اليوم هو الداعية السكندري الشهير "وجدي غنيم".. المصنف كأحد أشهر الدعاة "الثوريين" ، بسبب "مواقفه" فيما يختص بـ"تسليم السلطة" ، مواقف لا أعلم عن نفسي إن جاءت فعلاً حباً في مبادئ الثورة التي مات من أجلها شهداؤها منذ انطلاقها ، أم من أجل ما "يناضل" البعض من أجله من أجل فرض نموذج معين ، سواء أكان إسلامياً أو "ليبرالياً" ، وبالتالي فرض من سيقرره علينا على طريقة التعليم الرابسوماتيكي المتخلف.. (أما غالبية الناس الذين لا يعجبهم هذا ولا ذاك فأمامهم بحران كبيران ، ولهم مطلق الحرية في الشرب من أي منهما ، أو خبط رأسهم في الحائط الذي يريدون).. ولا أعلم الشيء الكثير عن حقيقة السبب الذي "مُنِعَ" من أجله من العمل في مصر.. بادئاً رحلة من العمل والإقامة في دول عربية شهدت علاقاته معها شداً تارة وجذباً أخرى.. المهم..

المهم أن الشيخ "وجدي غنيم" تلقى دعوة لإلقاء دروس وخطب ، منها خطبة الجمعة بعد ساعات في مدينة "صفاقس" التونسية ، وبالفعل وصل إلى تونس ، الذي جاءها "على السمعة" ، واستُقبِل هناك -أيضاً- "على السمعة".. بمعنى .. أن الشيخ "غنيم" جاء إلى تونس مستحضراً سمعته ، كداعية "مقبول" لدى الأوساط السلفية وبعض الأوساط غير السلفية ، وصاحب نهج "ثوري" كما يصنفه أنصار "حازم صلاح أبو إسماعيل" ، وأنه جاء إلى البلد الذي احتضن أول ثورات "الربيع العربي" وصاحب التجربة التي يراها البعض في مصر الأنجح بين كل الدول العربية التي شهدت ثورات ، أما التونسيون أنفسهم فردوا له التحية باستقباله على أساس "سمعته" لديهم..وبما أنه قد تحدث في وقت سابق عن "ختان الإناث" ، فكان من أول الرافضين هم القائمون على وزارة الصحة في تونس ، ثم "أنكرت" الكلام الذي أذيع على التليفزيون الرسمي التونسي ناسبةً البيان لـ"نقابة الأطباء".. أنصاره هنا يقولون أنه لم يتحدث عن الختان في تونس من الأساس ، لكن وكالة الصحافة الفرنسية تنقل عن حوار أجراه مع إذاعة "شمس" في تونس أنه يرى أن "الختان" عملية تجميل..والكلام له.. لكن مشاكله في تونس بدت أكبر بكثير من مجرد تصريحات عن الختان .. جريدة "الصحافة" التونسية مثلاً نشرت عن ندوة ضمت ناشطين تونسيين لا تنتقد فيها زيارة "غنيم" فحسب بل دعوة شيوخ يمثلون تديناً دخيلاً على البيئة التونسية بحسب كلامهم ..أو لنقل للدقة : ليس كلامهم وحدهم ، حتى مفتي تونس نفسه انتقده ووصف من هللوا له في تونس بأنهم "منبهرون بشخص يدعي المعرفة"..وإن كان هؤلاء المنبهرون كانوا من الكثرة بمكان ساعده "ميدانياً" عندما وقف عدد من الحقوقيين والناشطين محتجين على محاضرته يوم الاثنين الماضي .. الأمر الذي استوجب حراسة أمنية مشددة قبل إلقائه لخطبة الجمعة اليوم في مدينة "صفاقس" التونسية..

الشيء المؤكد أن عدد من وصفهم مفتي تونس بالـ"منبهرين" كثير ، كثرة يفسرها الكاتب "محمد بن جماعة" على أنها كانت رد فعل للكبت الذي مارسه نظام "بن علي" ، ويرى الكاتب أيضاً أن زيارة "غنيم" كشفت ما سماه "عمق التدين العاطفي في تونس" ، عمق ربما أسهم في وصول "النهضة" بشكل كبير إلى سدة الحكم بعد أن كانت حركة محظورة طوال عهد "بن علي"..

على أساس هؤلاء رتب "وجدي غنيم" - مع حفظ الألقاب - حساباته ، وتصرف كما لو كان قد جاء في زيارة إلى مصر ، حيث النسيج الاجتماعي مختلف ، وتوزيعة القوى مختلفة ، والبيئة الاقتصادية مختلفة ، وحتى المناخ الفكري مختلف تماماً ، وربما لم تجعله ضخامة الحضور المؤيد له وصوته العالي يرى أن هناك معارضة حقيقية هذه المرة له ، ليست ممثلة في نخبة مثقفة لديها نسخة من الأمراض الفكرية التي تعيب عليها الإسلاميين في حين أنها موجودة عندهم وعند الإسلاميين أيضاً ، ولا مجموعة من الناشطين معظمهم -بدون زعل- ما بين ضيق الرؤية وعديم المبدأ (وأهدرت في مجملها أهداف الثورة الحقيقية من عدل اجتماعي على حساب مصلحة فكرية وسياسية) ، ولا رأس مال فاسد معلوم الفساد يريد أن يحكم مصر باقتصاده وتربيطاته باسم دولة مدنية (والمدنية منها براء) .. المعارضة التي وقفت في وجه "غنيم" هذه المرة تتبنى فكراً موجوداً في الشارع ، وليس في كتابات س أو ص أو في فضائيات المال السياسي ، وإن كانت انتخابات التأسيسية في تونس أفرزت تقدماً كبيراً للنهضة فقد شهدت أيضاً تيارات أخرى ممثلة في الحكومة تمثل نفس الفكر ونفس التيارات ، وتيارات أخرى تختلف شكلاً و موضوعاً مع الإسلاميين ، وكلها نتاج ثورة ، ومن الصعب تجاهلهم فيها (ودورهم في الثورة أكبر من دور النهضة وأكبر من دور مجموعات الناشطين في مصر التي تمن علينا بنجاح الثورة) .. حتى مفتي تونس عارضه وانتقده ، وكذلك "عبد الفتاح مورو" أحد مؤسسي حركة النهضة نفسها!

خطأ الحسابات يترتب عليه خطأ في التصرف ، جاء الرجل إلى تونس ذات النمط الثقافي المختلف بنفس عقليته الجهادية التصادمية ، ليهتف في بلد كان عالمانياً لدرجة التطرف "إسلامية إسلامية" ، وبنفس ما ينعيه البعض عليه ، وعلينا كمصريين ، في المغرب العربي باحتكار الدين في مصر وأزهرها (والشيء نفسه يقال أيضاً عن المدرستين الدينيتين السعودية والإيرانية) في حين أن لدى تونس تاريخ عريق مع الإسلام وجامعة بتاريخ جامعة "الزيتونة".. ولا أعتقد أن الناس في المغرب العربي - الذي أقصيناه عن خطأ وخطيئة من حساباتنا- يحبون من "يتنطط عليهم" حتى في المسائل الدينية رغم تأثر مجتمعات بلاد المغرب العربي بشكل كبير لا ينكره أحد بالثقافة الفرانكفونية.. حتى أنني أشك أن بعض مؤيدي "غنيم" أنفسهم قد يختلفون معه وبشدة يوماً ما.. إن لم يكن قريباً..

لتونس حسابات أخرى ، ربما إن عاد إلى مصر سيجد مؤيدين أكثر (بما أن الأمر يتعلق بمرشحين إسلاميين معلنين في مصر على عكس الحالة في تونس) ، ومعارضة مختلفة نخبوية ، ومال سياسي ، وسيجد بعضاً ممن كانوا لا يطيقونه "وش" يبلعون له الزلط ما دام يتفق معهم في مسألة سياسية بعينها ، لكن هل يستطيع رجل يتعامل مع الناس "اسطمبة واحدة" دون تفرقة في الخطاب بين مصري وتونسي وخليجي وماليزي أن يعي أن من الناس في مصر ، على اختلاف أديانهم وأفكارهم ومذاهبهم ، من سئم أن يتعامل معهم أحد بتنميط ، وبنفس أفكار فترة السبعينيات والثمانينيات التي تسببت في "فَصَلان" الكثيرين من الجماعات الدينية والتيار الديني ككل؟

الإجابة ، أو جزء كبير منها ، عند الشيخ "وجدي غنيم" نفسه..

No comments: