تنظم الدولة عادةً العلاقات بين الناس بعضهم البعض ، أياً كانت دياناتهم ومعتقداتهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية .. لكن عندما تخرج الدولة من الباب يدخل "آخرون" من الشباك..
وضعت الدولة قدماً بعيداً عن أجزاء في المدن ، فرأينا معالم "الصوبة الزجاجية" التي تناولناها سابقاً.. في كل مرة تبتعد فيها الدولة يزداد النفوذ "الديني" داخل تلك المجتمعات أو المدن أو الأحياء ، وتظهر بدائل خدمية لما تقدمه الدولة من خدمات تكاد تكون شبه قاصرة على أبناء الديانة أو المذهب.. إذا كان ذلك ما يحدث في المدن والأحياء القريبة من العاصمة المدللة .. فما بالكم بالصعيد غير السعيد..
لسنوات طويلة جداً عاش الصعيد بعيداً عن اهتمام أي سلطة حاكمة في مصر ، بل إنه يلاحظ حتى في التاريخ المعاصر أن اهتمام الحكومات المركزية على مدى القرن الماضي كله - على سبيل المثال- بدمج الصعيد ذي الطبيعة الديموجرافية والسكانية والاجتماعية الخاصة جداً في ثقافة الدولة وإحلال تلك الأخيرة محل الثقافة القبلية التي تحتكم إلى السلطة العرفية ، ونهج التشدد الديني - إسلامياً ومسيحياً على السواء- الذي تأثر بعدم احتكاك الصعيد بما يكفي بثقافة الدولة ..ولا تسألني طبعاً عن تنمية الصعيد بمشروعات جادة وحقيقية تخفض من معدلات البطالة والفقر المدقع الذي تعيشه معظم إن لم تكن كل محافظاته..
في ظل مناخ كهذا يظهر "حبابينا الحلوين" في الصورة..
يستغل أولئك بعض الأحداث الطائفية لتقديم أنفسهم للفقراء هناك كمجتمع مدني وكناشطين وكمخلصين .. بخطاب إعلامي مدروس بإحكام يؤكد على ضخامة حجم الاضطهاد الذي يعاني منه الأقباط في مصر بشكل عام وفي الصعيد غير الصعيد بوصفهم "أقلية دينية" - وهو وصف يرفضه كثير من المسيحيين والمسلمين على السواء- مضطهدة.. مستشهدين بواقعة هنا أو هناك.. وكل ما يطلبه هؤلاء من البسطاء هناك أن يسلموهم ذقونهم.. على طريقة "سبانخ" في فيلم "الأفوكاتو"..بما أن تلك الجمعيات والمنظمات هي الأقرب للميديا ورجال الأعمال -الذين لا يحبون الاستثمار في الصعيد عادةً- والتي تستطيع إشعال مصر كلها ناراً عند أول حادث أو اشتباك طائفي ، وإن لم يحدث مثل هذا الاشتباك ينفخون في نار آخر.. ولعها ولعها..
ويقدم هؤلاء تجارة شيك بالدين تختلف عن تلك النماذج التي عرضنا لها على مدى السنوات الأربع ، إذ أن العديد من لاعبي الحلبسة المذهبيين كانوا يرفعون الشعارات الدينية بشكل صريح وزاعق.. كما في الحالات السلفية والمستصوفة .. أما هؤلاء الأكثر ثقافةً فيعمدون إلى دسها بين التفاصيل .. مثلاً جمعية من إياهم طالبت بعيد ما حدث في نجع حمادي بعدم الاعتداد بالمجالس العرفية -لحد كدة معقول قوي وفول ستوب- في القضايا الطائفية دون غيرها..كما أذيع في تغطية للخبر على OTV في ذلك الوقت..تيجي إزاي؟
أي.. بعد قصائد التسامح والمساواة والأخوة في الوطن نسمع عن مطالبات بتطبيق مجتزأ للقانون في حالات بعينها على أشخاص بعينهم.. كما لو كان الأذى الذي تسببه المجالس العرفية يفرق بين مسلم ومسيحي ، وكما لو كان الأصل في الأشياء تطبيق القانون في حالات أما الأخرى فـ"يتحرق أصحابها بجاز".. وطبعاً لم نسمع لهؤلاء حساً في المطالبة بوقف الاحتكام للجلسات العرفية في قضايا غير طائفية.. من الصعب على هذه النوعية من البشر أياً كان ما تعتنقه من دين أن تطالب لغيرها بحق ، لكن من السهل أن تدعي أنها تحب الجميع وتتحدث باسمهم..
يتحدثون عن قانون دور العبادة الموحد ، ماشي.. وهو مطلب غير قاصر على تلك الشلة أو أخواتها فقط بل له صدى خارجها.. لكن هل هذا المطلب وحده دون غيره هو الذي سيحل مشاكل التوتر الطائفي ، الذي تعد تلك الشلل نفسها من أهم أسبابه ، بطريقة معالجتها للأحداث وتطئيفها حسب المزاج والمصلحة؟ حلبسة لا تختلف كثيراً عن الحلبسة التي كتبنا عنها هنا ولا زلنا قبل أربع سنوات.. والحلبسة عادة لا دين لها..
ليه اللف والدوران؟ لسبب بسيط.. لأن خطاب هذه الشلل موجه في المقام الأول إلى من هم خارج الصوبة ، مسلمين ومسيحيين ، ليبراليين ومحافظين على السواء.. وكعادتك عندما توجه خطاباً لما هو "آخر" لا يخلُ الأمر من بعض "التزويق" والتجمل .. لكن لديك مشكلة كبيرة : ما دمت توجه خطابك "لنا"..فكيف تتوقع من الآخرين أن يصدقوك إذا كنت تقنعنا بأنك تريد شيئاً بينما تريد على أرض الواقع شيئاً آخر؟ -كما يقول المثل المصري "أسمع كلامك أصدقك أشوف أمورك أستعجب"..
هؤلاء وغيرهم في كل معسكر وعلى كل جناح هم المستفيدون الأول من غياب القانون في أجزاء من مصر ، وغياب التنمية عن أخرى .. وما يجعلني أتفاءل بغد أفضل هو كثير ممن أعرفهم .. مسلمين ومسيحيين ينحازون لمبادئهم .. وللتعايش والشراكة في الوطن بلا حنجوري ولا "شغل حلبسة" .. ويرفضون شلل "سلمني دقنك شكراً" - كانت تلك على دينهم أم لا - ولا ينخدعون بمعسول كلامها وعديد وعودها..فتلك الشلل لا تختلف عن أكثر المتطرفين تطرفاً..
No comments:
Post a Comment