Friday, April 30, 2010

الآتي بعد: في التعايش

برغم المتطرفين من الجانبين ، خصوصاً شلة "سلفني دقنك شكراً" ، وبرغم الصوب الزجاجية التي تنتصب كل يوم .. لا نزال كما قلت في وقت سابق أفضل بكثير من دول أخرى تنخر الطائفية في أساساتها ولا يفتأ أهلها يدعون من حين لآخر أنهم دولة بحق وحقيق كالتي نسمع عنها هنا وهناك.. حتى مع التسليم بأن الأمور تتطور باتجاه الأسوأ كما سبق الإيضاح..

مما لم تقض عليه الصوب تماماً حتى الآن فكرة التعايش .. وقانونه القديم قدم التاريخ .. الذي يؤمن به أناس يأخذون الأمور ببساطة ، ولا تعجبهم الصوب المكيفة الهواء التي يتخذها أتباع كل دين أو مذهب لأنفسهم تقيهم شر المخالف والمختلف..

1-من أهم بنود القانون المذكور فكرة "لكم دينكم ولي دين" ..الكل حر فيما يعتقد وفيما يؤمن به.. وبالتالي من المرفوض أن يقوم أي أتباع دين بدعوة أتباع الدين الآخر لاتباع الدين..هناك قاعدة فقهية شهيرة جداً نتعمد عدم الانتباه لها تقول "دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة".. حسابات مكسب وخسارة لكنها حسابات "طيبة" لأنها تستهدف صالحاً عاماً.. والعقل يقول أن الصالح العام للجميع هو العيش في مجتمع "مستقر".. وتصرف كهذا يدمر استقرار المجتمع بشكل عام..

2-وبالتالي .. ففكرة "التنميط" والتعامل بـ"عنف" مع ما يعد رموزاً دينية هنا وهناك مرفوضة .. ولا يمكن لأي أتباع دين أن يفرضوا شيئاً من دينهم على أتباع الدين الآخر ، ومن التزيد المرفوض في نفس الوقت أن ألغي شخصيتي الدينية مجاملة لأيٍ كان.. وضع كهذا لن يقبله أي شخص مسلماً كان أم مسيحياً أم بوذياً.. لهذا استغربت انتقاد الدكتور "عبد المعطي بيومي" لفتوى لـ"القرضاوي" تتحدث عن عدم جواز احتفال المسلمين بعيد الميلاد .. فلا المسلم ملزم بالفعل بالاحتفال بعيد ميلاد السيد المسيح عليه السلام- مع إيمانه به وبكل الأنبياء والرسل- ولا المسيحي ملزم في بلاد الإسلام بصوم رمضان الذي لم يفرض عليه.. وهو ما أوضحته ضمناً في تعليق على تعليق على تدوينة "السادة المفطرون" في رمضان الماضي..

لكن ذلك لا يمنع من المجاملة ، والتهنئة ، والابتسامة.. يقول الرسول (ص) ما معناه "وخالق الناس بخلق حسن"..

3-وعليه..الانتماء الديني لا يلغي الانتماء الوطني ، والانتماء الوطني لا يلغي نظيره الديني.. أمر بسيط يعرفه أناس بسطاء لم يتلقوا حظاً كبيراً من التعليم ، وليسوا من "الموصقَّافين" محترفي اللسان الحنجوري الذين أصبحوا أكثر تطرفاً مما يتخيل أجمحنا خيالاً..

على كل.. تبدو الأمور كالأواني المستطرقة.."المليان يكب ع الفاضي".. إما أن يقتنع أهل الصوب بقانون التعايش الأقدم من صوب هذه الأيام.. أو أن يمل أهل الصوب من هوائها المكيف وأبراجها العاجية..والله أعلم..

Wednesday, April 21, 2010

الآتي بعد : سلمني دقنك شكراً

تنظم الدولة عادةً العلاقات بين الناس بعضهم البعض ، أياً كانت دياناتهم ومعتقداتهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية .. لكن عندما تخرج الدولة من الباب يدخل "آخرون" من الشباك..

وضعت الدولة قدماً بعيداً عن أجزاء في المدن ، فرأينا معالم "الصوبة الزجاجية" التي تناولناها سابقاً.. في كل مرة تبتعد فيها الدولة يزداد النفوذ "الديني" داخل تلك المجتمعات أو المدن أو الأحياء ، وتظهر بدائل خدمية لما تقدمه الدولة من خدمات تكاد تكون شبه قاصرة على أبناء الديانة أو المذهب.. إذا كان ذلك ما يحدث في المدن والأحياء القريبة من العاصمة المدللة .. فما بالكم بالصعيد غير السعيد..

لسنوات طويلة جداً عاش الصعيد بعيداً عن اهتمام أي سلطة حاكمة في مصر ، بل إنه يلاحظ حتى في التاريخ المعاصر أن اهتمام الحكومات المركزية على مدى القرن الماضي كله - على سبيل المثال- بدمج الصعيد ذي الطبيعة الديموجرافية والسكانية والاجتماعية الخاصة جداً في ثقافة الدولة وإحلال تلك الأخيرة محل الثقافة القبلية التي تحتكم إلى السلطة العرفية ، ونهج التشدد الديني - إسلامياً ومسيحياً على السواء- الذي تأثر بعدم احتكاك الصعيد بما يكفي بثقافة الدولة ..ولا تسألني طبعاً عن تنمية الصعيد بمشروعات جادة وحقيقية تخفض من معدلات البطالة والفقر المدقع الذي تعيشه معظم إن لم تكن كل محافظاته..

في ظل مناخ كهذا يظهر "حبابينا الحلوين" في الصورة..

يستغل أولئك بعض الأحداث الطائفية لتقديم أنفسهم للفقراء هناك كمجتمع مدني وكناشطين وكمخلصين .. بخطاب إعلامي مدروس بإحكام يؤكد على ضخامة حجم الاضطهاد الذي يعاني منه الأقباط في مصر بشكل عام وفي الصعيد غير الصعيد بوصفهم "أقلية دينية" - وهو وصف يرفضه كثير من المسيحيين والمسلمين على السواء- مضطهدة.. مستشهدين بواقعة هنا أو هناك.. وكل ما يطلبه هؤلاء من البسطاء هناك أن يسلموهم ذقونهم.. على طريقة "سبانخ" في فيلم "الأفوكاتو"..بما أن تلك الجمعيات والمنظمات هي الأقرب للميديا ورجال الأعمال -الذين لا يحبون الاستثمار في الصعيد عادةً- والتي تستطيع إشعال مصر كلها ناراً عند أول حادث أو اشتباك طائفي ، وإن لم يحدث مثل هذا الاشتباك ينفخون في نار آخر.. ولعها ولعها..

ويقدم هؤلاء تجارة شيك بالدين تختلف عن تلك النماذج التي عرضنا لها على مدى السنوات الأربع ، إذ أن العديد من لاعبي الحلبسة المذهبيين كانوا يرفعون الشعارات الدينية بشكل صريح وزاعق.. كما في الحالات السلفية والمستصوفة .. أما هؤلاء الأكثر ثقافةً فيعمدون إلى دسها بين التفاصيل .. مثلاً جمعية من إياهم طالبت بعيد ما حدث في نجع حمادي بعدم الاعتداد بالمجالس العرفية -لحد كدة معقول قوي وفول ستوب- في القضايا الطائفية دون غيرها..كما أذيع في تغطية للخبر على OTV في ذلك الوقت..تيجي إزاي؟

أي.. بعد قصائد التسامح والمساواة والأخوة في الوطن نسمع عن مطالبات بتطبيق مجتزأ للقانون في حالات بعينها على أشخاص بعينهم.. كما لو كان الأذى الذي تسببه المجالس العرفية يفرق بين مسلم ومسيحي ، وكما لو كان الأصل في الأشياء تطبيق القانون في حالات أما الأخرى فـ"يتحرق أصحابها بجاز".. وطبعاً لم نسمع لهؤلاء حساً في المطالبة بوقف الاحتكام للجلسات العرفية في قضايا غير طائفية.. من الصعب على هذه النوعية من البشر أياً كان ما تعتنقه من دين أن تطالب لغيرها بحق ، لكن من السهل أن تدعي أنها تحب الجميع وتتحدث باسمهم..

يتحدثون عن قانون دور العبادة الموحد ، ماشي.. وهو مطلب غير قاصر على تلك الشلة أو أخواتها فقط بل له صدى خارجها.. لكن هل هذا المطلب وحده دون غيره هو الذي سيحل مشاكل التوتر الطائفي ، الذي تعد تلك الشلل نفسها من أهم أسبابه ، بطريقة معالجتها للأحداث وتطئيفها حسب المزاج والمصلحة؟ حلبسة لا تختلف كثيراً عن الحلبسة التي كتبنا عنها هنا ولا زلنا قبل أربع سنوات.. والحلبسة عادة لا دين لها..

ليه اللف والدوران؟ لسبب بسيط.. لأن خطاب هذه الشلل موجه في المقام الأول إلى من هم خارج الصوبة ، مسلمين ومسيحيين ، ليبراليين ومحافظين على السواء.. وكعادتك عندما توجه خطاباً لما هو "آخر" لا يخلُ الأمر من بعض "التزويق" والتجمل .. لكن لديك مشكلة كبيرة : ما دمت توجه خطابك "لنا"..فكيف تتوقع من الآخرين أن يصدقوك إذا كنت تقنعنا بأنك تريد شيئاً بينما تريد على أرض الواقع شيئاً آخر؟ -كما يقول المثل المصري "أسمع كلامك أصدقك أشوف أمورك أستعجب"..

هؤلاء وغيرهم في كل معسكر وعلى كل جناح هم المستفيدون الأول من غياب القانون في أجزاء من مصر ، وغياب التنمية عن أخرى .. وما يجعلني أتفاءل بغد أفضل هو كثير ممن أعرفهم .. مسلمين ومسيحيين ينحازون لمبادئهم .. وللتعايش والشراكة في الوطن بلا حنجوري ولا "شغل حلبسة" .. ويرفضون شلل "سلمني دقنك شكراً" - كانت تلك على دينهم أم لا - ولا ينخدعون بمعسول كلامها وعديد وعودها..فتلك الشلل لا تختلف عن أكثر المتطرفين تطرفاً..